إرتفاع المبيعات العسكرية الإسرائيلية للعرب..
زاهر بن حارث المحروقي
إعـلامي وكاتـب
إرتفاع المبيعات العسكرية الإسرائيلية للعرب..
شاهدتُ مقطعًا مصورًا يعود لعام 2019م، لمقابلة تلفزيونية مترجمة لمتحدث صيني، قيل إنه البروفيسور جين شيان رونغ من جامعة الشعب في بكين، يقدّم صورة بليغة ومؤلمة عن واقعنا العربي؛ فهو يفتتح كلامه بأنّ القدرة على التصنيع تحدّد مستقبل الأمم والشعوب، وأنّ تحقيق التحوّل الصناعي الشامل يُعدّ الركيزة الأساسية لنهضة أيّ أمة من الأمم في هذا العصر. ولا غبار على ذلك الكلام، فالواقع يشهد بتلك الحقيقة. ولكن ما قاله بعد ذلك يحتاج إلى وقفات كثيرة، إذ يقول في تلك المقابلة : “من امتلك أسس الصناعة الحديثة فقد امتلك قراره وسيادته، ومن لم يمتلك ذلك فلن تنفعه كثرةُ أمواله ولا كثرةُ تعداد سكانه”، وضرب مثلًا حيًا بالشرق الأوسط قائلاً : “في الشرق الأوسط 22 دولة بتعداد 450 مليون نسمة، تضمّ دولًا غنية جدًا يغبطها الكثيرون، لكن هذه الدول تُضرَب وتهان صباح مساء من قبل دولة صغيرة، تعدادُ سكانها لا يتجاوز سبعة ملايين نسمة (إسرائيل)، إنّ ذلك الأمر مدعاة للخزي والعار” .. ولكن كيف يتم ذلك؟ يقول البروفيسور جين شيان رونغ : “السبب يكمن في امتلاك تلك الدولة الصغيرة لمقومات التحول الصناعي الحديث والمتطور جدًا، بينما في المقابل نجد أنّ العرب متخلفون، ولهذا فإنّ المتخلف يكون عرضة للضرب والركل”، ويقطع البروفيسور شيان شوطًا آخر في وصف الدول غير القادرة على تملّك أسس التصنيع بأنها ستبقى دولًا ضعيفة وغنيمة حرب، عكس “الدول القادرة على التصنيع، فإنها تستطيع تسليح جيشها بنفسها، وكلما كانت الصناعة قوية، كانت القدرة التنظيمية العسكرية أقوى”.
لخّص البروفيسور شيان وضع الدول العربية في أقل من دقيقتين؛ فالأمةُ العربية رغم ثرواتها وعدد سكانها وموقعها الاستراتيجي، إلا أنها تتسوّل أسباب الحضارة من الخارج؛ ومعظمُ الدول العربية هي أقرب إلى أن تكون تحت “الوصاية”، ولا تستطيع أن تحمي نفسها، وبأسُها بينها شديد، مقابل عدو اتّخذ كلّ أسباب النجاح في الحياة؛ فوَصل الأمر بالعرب أن يتسابقوا ويهرولوا لإقامة علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية مع هذا العدو، لقوته ولضعفهم، ولم يعد غريبًا أن نشاهد الصناعات الإسرائيلية وهي تُعرض في الوطن العربي، مثلما حدث مؤخرًا عندما شاركت إسرائيل في المعرض الجوي في مملكة البحرين، الذي أقيم في المنامة يوم الأربعاء التاسع من نوفمبر 2022، لأنّ العرب ساهموا في ارتفاع مبيعاتها من الأسلحة، بإقرار إسرائيل نفسها؛ ففي إحصاءاتها الأخيرة أنّ العام 2021 سجّل رقمًا قياسيًا في التصدير الأمنيّ للكيان، مُرجِعة السبب إلى اتفاقيات التطبيع المعروفة باسم “اتفاقيات أبراهام”.
ووفقًا لصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية فإنّ وزارة الأمن الإسرائيلية، أكّدت رسميًا أنّ ارتفاعًا بنسبة ثلاثين بالمائة في حجم الصفقات الجديدة سُجّل في العام الماضي مع زبائن في أرجاء العالم، وأنّ الصناعات الأمنية أبرمت صفقات بمبلغ 11.3 مليار دولار. ووفق المعطيات الرسمية، يبدو أنّ السنة الحالية ستنتهي بأرقام عالية بسبب عدد من الصفقات الضخمة، كان نصيب الكيان الإسرائيلي من دول الخليج – حسب صحيفة “هآرتس” كما نقل ذلك زهير أندراوس – نحو 7 في المائة من إجمالي الصفقات، وأنّه “في الأشهر الأخيرة كُشف بأنّ إسرائيل باعت منظومات دفاع متطورة من نوع “براك” و”سبايدر” لدولة خليجية أخرى مطبعة، ووقّع المغرب في هذه السنة أيضًا على صفقة للتزود بصواريخ براك”، وعلّلت المصادر الإسرائيلية زيادة الطلب على منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية، بـ”ازدياد تهديد المسيّرات الإيرانية بساحة الحرب في أوكرانيا، وهجمات جوية واسعة من روسيا”.
وكعادتها في دسّ السم في العسل لم تفوّت المصادر الإسرائيلية الإشارة إلى “البعبع الإيراني” بإشارتها إلى كأنّ “إيران تُنتِج مسيّرات هجومية بكميات كبيرة، يتم إطلاقها في صليات من العراق واليمن على أهداف في الخليج، مثل منشآت نفط ومطارات وسفن، وأنّ تكلفتها منخفضة جدًا (20 ألف دولار للواحدة)، وضررها كبير، كما حدث في منشآت نفط (أرامكو) بالسعودية، والدمار الكبير الذي ألحقته روسيا في أوكرانيا، عندما بدأت تستخدم المسيّرات الإيرانية في أكتوبر الماضي”، وهذه هي النغمة التي يعزفها الكيان الصهيوني دائمًا لتخويف الدول الخليجية، حيث بلغت صفقات الأسلحة الإسرائيلية لدول المنطقة ثلاثة مليارات دولار حسب تصريح بيني غانتس وزير الأمن الإسرائيلي لصحيفة “هآرتس”، وتُعتبر هذه الصفقات ارتفاعًا كبيرًا لسوق كانت حتى فترة قريبة مغلقة أمام إسرائيل، وإلغاءً رسميًا لمكاتب كانت موجودة في كلّ الدول العربية بقرار من الجامعة العربية، اسمها “مكتب مقاطعة إسرائيل”. ولم تكن الدول الخليجية هي الوحيدة التي عقدت صفقات لشراء الأسلحة الإسرائيلية، ففي شهر فبراير الماضي، نُشِر أنّ الصناعات الجوية الإسرائيلية، ستُزوِّد المغرب بمنظومة دفاع جوي من نوع (براك) في صفقة بمبلغ 600 مليون دولار، وذلك عقب زيارة وزير الأمن الإسرائيلي للمغرب. وإذا كانت هذه الصفقات معلنة فإنّ ما خفي هو بالتأكيد أعظم وأكبر بكثير، فأجهزةُ التجسس الإسرائيلية أصبحت المفضّلة لدى الكثير من الأجهزة الأمنية، وهي تؤدي دورين؛ التجسس على المواطنين، وفي نفس الوقت التجسس لصالح الكيان الإسرائيلي.
أمام هذا التسابق العربي لاقتناء الأسلحة والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، يحقّ لواحد مثل بوعاز ليفي مدير الصناعات العسكريّة الإسرائيليّة، أن يفخر علنًا بالاختراق الذي حققه الكيان الصهيوني للبلدان العربية، وقال بعد أن شارك في معرض البحرين الدولي للطيران لصحيفة هآرتس: “هذه المرة الأولى التي نأتي فيها إلى هنا بصورة رسمية، في الجناح الإسرائيليّ، تحت علم إسرائيل، وتحت علم الصناعات الجوية الإسرائيلية. في (اتفاقات أبراهام) توجد إمكانية كامنة، فقد دخلت دول من المنطقة في تعاون مع إسرائيل، وهذا يُعتبر ربحًا لكلّ الأطراف”. ولا أعتقدُ أنّ هذا التعاون يُعتبر ربحًا لكلّ الأطراف – كما ذهب بوعاز -، فهو ربحٌ لصالح الكيان الإسرائيلي حاليًا ومستقبلًا. ومن المفارقات العجيبة أنه في الوقت الذي يؤكد فيه الاستراتيجيون الصهاينة على أمر زوال إسرائيل، إذا بالعرب يمدون ويطيلون في بقائها وأمدها. وهذا السلاح سيقرر مصير هذه الدول مستقبلا ولن تحدد هي مصيره.
نحن إذن أمام وجهين لعملة واحدة؛ وجه واحد يمثّل كيانًا مصطنعًا، لكنه أخذ بالأسباب لكي يستمر ويسيطر على العالم، باهتمامه بالعلم والإنتاج والصناعات الخفيفة والثقيلة وغيرها، ووجهٌ آخر حباه الله المال والموقع والمادة الخام لكلّ الصناعات، إلا أنه بدّد تلك الثروات في التوافه من الأمور، وأصبح مستهلكًا فقط، يعيش على الخوف من المستقبل، ويخزّن الأسلحة بالمليارات، والتي لن تلبث أن تُصبح مجرد “خردة” بعد سنوات قليلة، وينطبق عليه ما قاله البروفيسور الصيني جين شيان، أنه يُضرب ويُركل صباح مساء، لأنه لم يأخذ بالأسباب. وقد يكون الراحل د. مصطفى محمود أبلغ من صوّر مسألة الأخذ بالأسباب بقوله: “إذا نزل مؤمن وكافر إلى البحر، فلا ينجو إلا من تعلم السباحة؛ فالله لا يحابي الجهلاء؛ فالمسلم الجاهل سيغرق والكافر المتعلم سينجو”. وقد يرى البعض أنّ شراء هذه الدول للأسلحة الإسرائيلية أمرٌ يُعدّ من اتخاذ الأسباب، ولكن المسألة تختلف تمامًا بين الشراء والتخزين وتسليم الأمر للبائع أن يدير هذه الأسلحة، وبين أن تهتم الدول نفسها بالعلم والعلماء والصناعات. والحقيقة التي سبق لي أن ذكرتُها في مقال سابق عن “كورونا”، هي أنّ أمةً لا تهتم بالعلم ولا تصنع دواءها ولا تنتج غذاءها، وتعتمد في جميع شؤونها الحياتية على الخارج، لن يُكتب لها الحياة، ولن تستفيد من قشور الحضارة المتمثلة في البنايات التي أقامتها، أو في كثرة الجامعات فيها، التي هي أقرب للمباهاة فقط، وقد لامني أحدُ القراء بأني جلدتُ نفسي والأمة بسبب شيء بسيط هو الدواء؛ وقد فاته أنّ داعية إسلاميًا كبيرًا هو الشيخ محمد الغزالي قد قال في كتابه “الطريق من هنا” : “لو قضى المسلم عمره ,قائمًا إلى جوار الكعبة، ذاهلًا عمّا يتطلبه مستقبل الإسلام من جهاد علمي واقتصادي وعسكري، ما أغناه ذلك شيئًا عند الله.. إنّ بناء المصانع يعدل بناء المساجد”، وما قاله الشيخ الغزالي رحمه الله، يذكرني بما قاله قديمًا الأديب جبران خليل جبران : “ويلٌ لأمة تأكل ممّا لا تزرع، وتلبس ممّا لا تخيط، وتشرب ممّا لا تعصر”، وهو قولٌ يختصر حالة الأمة العربية التي حباها الله الخيرات، وفتح لها من خزائنه ما لم يفتح لأمة أخرى، إلا أنّ تلك الخيرات أصبحت وبالًا عليها، بسبب الفساد وسوء التخطيط، ومحدودية الطموحات، حتى أصبح قرارها بيد عدوها، كما نرى.
* تم نشر المقال بموافقة الكاتب ، نقلاً عن جريدة عمان ؛ عدد الإثنين 26 / 12 / 2022م.