إيران بين حداثة الماضي وتشدد الحاضر .. بلاد الفرس إلى أين؟؟ (1)..
المستـشار/ عـبـدالعـزيـز بـدر القـطان
مـفـكـر وكـاتـب – الكـويـت
إيران بين حداثة الماضي وتشدد الحاضر .. بلاد الفرس إلى أين؟؟ (1)..
كانت الأرثوذكسية الروسية قوة ناعمة للإمبراطورية الروسية، لكنها انكسرت اليوم تحت وطأة المتغيرات والصراعات والتطور الحضاري الذي أعقب ذاك العهد، كما كانت بعض المشاعر القوية بمثابة القوة الدافعة للتغيير، اجتاحت الرغبة أو النفور أو الحب أو الخوف أو الغضب ثقافات بأكملها نحو التغيير، مما دفع الناس إلى أفعال غيرت كل شيء.
كما لم يكن اليهود، في عجلة من أمرهم ليشعروا بشيء ما، مما يجعل حياتهم العاطفية تعتمد على الله، أربعة أجيال لعائلة واحدة، حيث أن الوصايا العشر ليست سوى جزء من قائمة طويلة من الأشياء التي يمقتها الله، الآن يتم تقديم تاريخ البشرية بأكمله إلى حد كبير على أنه تاريخ من الخوف المهين.
في العهد الحديث، الجميع علم ما يحدث في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث تستمر المظاهرات في إيران للشهر الثالث، لقد أصبحت الأطول في تاريخ المظاهرات المناهضة للحكومة في ظل النظام الحالي، الإصلاحيون الليبراليون الإيرانيون، الذين أطيح بهم من السلطة بعد الانتخابات الرئاسية التي جرت في الصيف، يطالبون، إن لم يكن بإلغاء، على الأقل تخفيف القواعد المنصوص عليها في الإسلام، والمحافظون يعترضون على التنازلات، والتي، في رأيهم، ستكون علامة على الضعف وستشجع فقط المزاج الاحتجاجي، في الوقت نفسه، تحجم الدول الغربية عن التدخل المباشر في الشؤون الداخلية لإيران، خشية أن يخدم ذلك قيادتها الدينية والسياسية، ويعزز موقف السلطات تحت شعار صد “العدوان الخارجي”، بالمناسبة، تتهم طهران الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بتنظيم مظاهرات مناهضة للحكومة في ضواحي البلاد، ولا سيما في محافظتي كردستان، وكذلك سيستان وبلوشستان، حيث أعنف الاشتباكات بين المحتجين والجهات المختصة.
لكن هناك طاقة لتحمل الناس، ولولا أن بلغ السيل الزبى، لما استمرت المظاهرات المطالبة بالحدود الدنيا لعيشها الكريم، نعم إيران ناجحة على المستوى الصناعي والعسكري وتمسك البلاد بيد من حديد، لكن الشعب ليس العدو، إنما هو اللبنة الأولى والأساسية في بناء إيران قديماً وحديثاً، ومن حقه الحصول على حقوقه وأنا كإنسان بالمقام الأول، تدفعني الإنسانية للوقف إلى جانب المستضعفين أياً كان لونهم وتوجههم، فالواجب هنا يحتم عليّ ذلك، لذا هذا برسم المسؤولين التخفيف من طريقتهم في إدارة الأمور على الأقل داخلياً والاهتمام بكل المكونات، والديانات والمذاهب، وتتخلى عن حصر الناس تحت فكرة واحدة أي التخلي عن الأدلجة لأن أي حزب يساري شيوعي كان أو علماني أو إسلامي يفشلون جميعاً إن أرغموا الناس على فكرة واحدة، لأن ذلك إن لم يتغير فليس مسمّى له إلا على أنه ديكتاتورية وقمع وهذا لا أحد يرغب به.
إذاً، إنه الخوف، الخوف يسيطر على كل المجتمعات من فقدان السلطة أو تضعضعها، على أقل تقدير، من هنا كانت هذه أحد أبرز العوامل لسقوط حضارات ونشوء أخرى، فمهما كانت عظمة أي حضارة لم تدم رغم القوة الكبيرة التي كانت تتمتع بها، والأهم من كل ذلك، أن الأعراق والأنساب اختلطت فلم يعد هناك مجتمعات صافية العِرق، بل كان البارز التعايش لمكونات استقرت في مناطق أخرى هرباً من ظلم أو قتل أو مجاعة، وأصبحت مكوناً رئيسياً في المجتمعات الجديدة.
بـلاد فـارس..
بلاد فارس، قطعة من رقعة جغرافية متحركة ومثيرة، تاريخ وحضارة، جاء ذكرها في كتاباتٍ بابلية، الحضارة الفارسية أولاً، التي اتسعت من نهر السند شرقاً إلى الدانوب غرباً، وانتهت على يد الإسكندر المقدوني، ثلاثة قرونٍ قبل الميلاد، حيث عاشت الإنسانية على وقع حروبٍ بين الفرس والروم، وذلك بين القرن الأول قيل الميلاد، والسابع بعده، ثم انتشر الإسلام ليشمل إيران، فقد قدّم الفرس الكثير للحضارة الإسلامية الجديدة، “ألف ليلة وليلة” هي من ثمرات ذلك التلاقح الحضاري.
ابن المقفع “إبن بلاد فارس”، وهو الذي ترجم “كليلة ودمنة”، من الفارسية إلى العربية، والخوارزمي والرازي، الغزالي وابن سينا، البيروني وعلم الفلك، الطب والفلسفة، الرياضيات واللغة العربية القوية لأن سيبويه وضع القواعد التي ندرسها، إذ من المعروف أن الإمبراطورية الفارسية في ذروة مجدها تحت حكم داريوس العظيم امتدت من شبه جزيرة البلقان في أوروبا، إلى وادي نهر السند في شمال غربي الهند وجنوباً إلى مصر.
اليوم، إيران، جمهورية إسلامية، هي على هذا النظام منذ ثورة العام 1979، ويتجاوز عدد سكان الجمهورية، 71 مليون شخصاً، بعد فرط عقد الإمبراطورية، استقلت البلدان وأصبحت كل بلد بحدود خاصة بها، وهنا أود أن أشير إلى أن بلاد فارس حضارة واسعة كما أشرت امتدت في أصقاع الأرض، على عكس البعض الذي يختزل بلاد فارس فقط في إيران.
أقدم المناطق المأهولة..
تعتبر الهضبة الإيرانية من أقدم المناطق التي سكنها البشر، ونشأت فيها الحضارة منذ آلاف السنين قبل الميلاد، ومن أقدم المدن الإيرانية، نجد مدينة سوس أو شوشان، وتاريخياً عمرها أكثر من 4000 عام قبل الميلاد، وكان العيلامين من أقدم الشعوب التي أسست ممالك قوية في بلاد فارس، وكانت شوشان عاصمة لهم، وفي العام 1500 قبل الميلاد، استقرت مجموعة من الشعوب الآرية في تلك البقعة من العالم، وكان منهم الميديين والفرس والبارثيين، وتجدر الإشارة إلى أنه يُعتقد أن الميديين هم أسلاف الشعب الكردي، ثم تشكلت الإمبراطورية الإخمينية على يد الإمبراطور “كورش الكبير”، امتدت الإمبراطورية في عهده من وسط آسيا إلى الأناضول، ووصلوا إلى قبرص ومصر وبلاد الشام، وتوسعوا في قلب الإمبراطورية اليونانية، وهنا أصحبت الإمبراطورية الإخمينية أعظم قوة في العالم، وكان يدعى ملك هذه الإمبراطورية “شاهنشاه – ملك الملوك”.
ومن المعروف أن الإمبراطورية الإخمينية استمرت 200 سنة حتى ظهر الإسكندر الأكبر المقدوني، الذي دمر هذه الإمبراطورية، عام 331 قبل الميلاد، لكن بعد وفاته تقسمت البلاد التي وقعت تحت سيطرته، وكانت الهضبة الإيرانية تحت سيطرة القائد سلوقس، مؤسس الدولة السلوقية التي استمرت حتى القرن الثالث قبل الميلاد، وهكذا توالت الزعامات البارثية والساسانية التي وصلت إلى حدود الصين، مع الإشارة إلى أن عهد الساسانيين هو من أكثر العصور التي أثرت في تاريخ إيران الحديثة، حيث شهدت الفترة الساسانية أعلى إنجاز حضاري أدبي وفني.
في تلك الفترة أي في عهد الساسانيين، أن الديانة التي كانت سائدة هي الديانة الزرداشتية، حتى القرن السابع الميلادي، ظهر الإسلام وبدأت حركة الفتوحات الإسلامية، حيث تمكن المسلمون من إخضاع بلاد فارس وتدمير الإمبراطورية الساسانية، في عهد الفاروق، الخليفة عمر بن الخطاب، وكان من أعظم المعارك التي دارت بين المسلمين والساسانيين هي معركة القادسية، بقيادة سعد بن أبي وقاص، التي فتحت الطريق للمسلمين فيما بعد للسيطرة على كل بلاد فارس، ومذاك الوقت أصحبت هذه البلاد جزء مهم من الدولة والحضارة الإسلامية، وبعد عصر الخلفاء الراشدين خضعت بلاد فارس لحكم الأمويين، الذين استفادوا من مسلك الساسانيين فيما يتعلق في مظاهر ونظم الحكم، مثل نظام الدواوين، ثم وقعت بلاد فارس تحت حكم الدولة العباسية، التي اعتمدت على الفرس في بداية تشكل الدولة، فكان الجيش العباسي أغلبه من الفرس، ومعظم أصحاب المناصب الرفيعة من قادة ووزراء وغيرهم، أيضاً من الفرس، وهذا فيما يبدو أنه أمر ليس مستغرباً لأنه من المعروف أن الدولة العباسية نشأت في بدايتها في خراسان.
ومع ضعف الدولة العباسية، ضعفت معها الأقاليم التي كانت واقعة تحت سيطرتها، وهذا ما أعطى الفرصة للانتهازيين والغلاة، لتأسيس دول مستقلة تابعة اسمياً للدولة العباسية مثل الدول الطاهرية والصفارية والسمانية، وفي أوائل القرن العاشر، سيطرت الدولة البويهية على السلطة في إيران والعراق، ووصلوا إلى عاصمة الدولة العباسية مدينة السلام “بغداد”، فيما يبدو أن كل فترة نمت على حساب الفترة التي سبقتها، فقد ظهرت أيضاً الدولة الغزنوية، التي لعب فيها العنصر التركي دوراً بارزاً على حساب العنصر الفارسي، حيث بدأ يزداد تدريجياً في الدولة العباسية، ومن المعروف أنه خلال القرن الحادي عشر، قضى السلاجقة الأتراك على الدولة البويهية، والغزنوية في بلاد فارس، حيث أصبح للسلاجقة دوراً مهماً في العهد العباسي، كما أشرنا في مقال سابق وتحدثنا فيه عن الدولة السلجوقية، وكما هو معروف أن “دوام الحال من المحال”، بعد سقوط حكم السلاجقة، سيطر الخوارزميون على السلطة في المنطقة، ورغم أنهم من سلالة تركية، لكن الثقافة الفارسية شكلت لديهم عاملاً مهماً فكانوا متأثرين بالثقافة والحضارة واللغة الفارسية، واستمر عهدهم حتى القرن الثالث عشرـ، وذلك بسبب اجتياح المغول للعالم الإسلامي، ومن جُملة ما دمروا، كانت الدولة الخوارزمية، التي كانت خط الدفاع الأول للعالم الإسلامي ضد المغول.
ومن الجدير بالذكر أن غزو المغول للعالم الإسلامي كان مهولاً وصادماً، رغم أنهم اعتنقوا الإسلام فيما بعد، وكان غزوهم سبب سقوط آخر قلاع الإسلام، وانقطعت الخلافة الإسلامية لأول مرة في التاريخ، منذ عهد الخليفة أبي بكر الصديق.
في تلك الفترة أسس المغول، دولتهم في بلاد فارس تحت اسم “الإلخانات”، ومع اعتناق غازان خان الإسلام، وإعلانه أن الدين الرسمي للدولة الإلخانية في بلاد فارس هو الإسلام، ومع سقوط الدولة المغولية في القرن السابع عشر، سقطت دولة الإلخانات بسبب الحروب الأهلية، وظلت بلاد فارس منقسمة بين السلالات المغولية حتى ظهور القائد الشهير، تيمورلنك، الذي غزا بلاد فارس وضم معظمها إلى إمبراطوريته، لكنه فقد الكثير منها في منتصف القرن الخامس عشر، لصالح دولة قرة قوينلو التركمانية، حيث حدث نزاع بين قبائل تركمانية أواخر القرن الخامس عشر على بلاد فارس، والذي ظل قائماً حتى ظهور عهد الدولة الصفوية، في أوائل القرن السادس عشر، حيث أسس الشاه إسماعيل الأول الدولة الصفوية في إيران في العام 1505، وهنا من الجدير بالذكر أن الدولة الصفوية كانت أحد أهم السلالات الحاكمة في إيران التي تُعتبر بداية التاريخ الحديث لإيران الحالية، لأنها هي من رسخت للدولة القومية الفارسية الحديثة، ويقال إنها من أسست المذهب الشيعي الإثنا عشري، الذي اتخذه الشاهات الصفويين مذهبا رسميا للدولة بدل المذهب السني.
وسيطرت الدولة الصفوية في أقصى اتساع لها، على إيران والعراق، وأجزاء من وسط آسيا وأرمينيا، وجورجيا والأناضول وبلاد الشام، وكان من أبرز حكامها، الشاه عباس الأول، واستمرت الدولة الصفوية لمدة 200 عاماً، وأفل نجم هذه الدولة مع دخول القرن الثامن عشر نتيجة حكامها الضعفاء فيما بعد، وحروبها الطويلة مع الدولة العثمانية، والحرب التي شنها بطرس الأكبر قيصر روسيا على أراضيها في القوقاز، وخلال كل تلك الفوضى استغل الجيش الأفغاني ذلك، وسار محمود شاه بجيشٍ كبير سنة 1722، حيث حاصر أصفهان، عاصمة الدولة الصفوية، وسيطر عليها وأعلن نفسه شاهاً على بلاد فارس، وهذا ما صب في مصلحة الروس والعثمانيين الذين سيطروا على الكثير من الأراضي الصفوية وممتلكاتها المنتشرة، إلى أن نجح الأمير التركي الأفشاري، نادر شاه من إعادة وحدة الأراضي الفارسية، بعد أن هزم الأفغان والعثمانيين، واستعاد أراضي الدولة في القوقاز، من خلال مفاوضات مع الروس، وبحلول العام 1739، وصل نادر شاه إلى قوة بالغة ثم أعلن نفسه شاهاً جديداً على بلاد فارس، وأسس دولته التي عُرفت باسم الدولة الأفشارية، ومع مقتله، انهارت هذه الإمبراطورية ودخلت البلاد في أتون الحروب الأهلية بين الأمراء، والعائلات التي أنتجت وصول محمد خان القاجاري للحكم، وتأسيسه للدولة القاجارية سنة 1796، وهكذا حتى بداية القرن التاسع عشر والدخول في الحرب الروسية الفارسية، للسيطرة على جورجيا ومنطقة القوقاز.
وكانت النتيجة أن انتهت الحرب الروسية الفارسية، بانتصار الروس، وتنازل إيران قسرياً على منطقة القوقاز، ما كان سبباً في هجرات مئات الآلاف المسلمين من منطقة القوقاز إلى إيران، ومع بداية القرن العشرين، حدثت الثورة الدستورية التي حولت إيران لملكية دستورية، حيث تم اعتماد دستور للبلاد وإنشاء برلمان، ومع اكتشاف النفط في منطقة الأحواز سنة 1908، ازداد اهتمام بريطانيا بإيران وبدأ صراع النفوذ بين بريطانيا وروسيا الذي عُرف باسم اللعبة الكبرى، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، غزت روسيا وبريطانيا والدولة العثمانية إيران، رغم أنها كانت دولة محايدة، إنما انسحبت روسيا بعد بدء الثورة البلشفية فيها، وفشلت بريطانية في فرض حمايتها على إيران وانتهى الأمر بسقوط الأسرة القاجارية، ووصول رشا شاه بهلوي للحكم، الذي أسس أسرة البهلوية عام 1925، الذي استمر حكمها نص قرن، إلى أن قامت الثورة الإسلامية في العام 1979، التي أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي آخر شاهات الأسرة البهلوية، وتشكلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بقيادة آية الله الخميني، وهي الدولة التي لا تزال قائمة إلى الآن.
من هذا المدخل التاريخي في عرض موجز على الحضارات المتعاقبة التي سيطرت على بلاد فارس، وإسقاطاً على واقع اليوم، دهشت لكم التشابه بين ذاك الماضي السحيق وحاضر اليوم، ولربما فهمت أحقية الدول الحديثة بأراضِ كانت تابعة لها قديمة، على اعتبار سير الحروب وتوسع الممالك والإمبراطوريات قديماً حتى أيامنا هذه، وهذا من الناحية العامة، لكن لا بد من معرفة حضارة هذه الإمبراطورية وبماذا تميزت، وهل أثرت البشرية، وبما اشتهرت، وهل لا يزال من أدبها القديم وصناعاتها وحرفها وعاداتها وتقاليدها ما هو حيّ إلى اليوم؟.
بالتالي، كما أشرنا أعلاه، في العصور القديمة، أصبحت بلاد فارس مركزاً لإحدى أعظم الإمبراطوريات في التاريخ، والتي امتدت من مصر إلى نهر السند، شملت جميع الإمبراطوريات السابقة – المصريون والبابليون والآشوريون والحثيون، لم تتضمن إمبراطورية الإسكندر الأكبر اللاحقة تقريباً أي أرض لم تكن من قبل للفرس، بينما كانت أصغر من بلاد فارس في عهد الملك داريوس، ومنذ نشأتها احتلت بلاد فارس مكانة مهيمنة في العالم القديم، تم إحياء الدولة الفارسية تحت سلالتين محليتين، لأكثر من سبعة قرون، وأبقوا روما في حالة خوف، ثم بيزنطة، حتى القرن السابع.
يـتـبـع…