بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

تاريخ صدام حسين .. حقائق تتطلب إنصاف (2)..

الكاتب/ خميس بن عبيد القطيطي

khamisalqutaiti@gmail.com

 

تاريخ صدام حسين .. حقائق تتطلب إنصاف (2)..

 

لا شك أن الخوض في تاريخ بعض الشخصيات الجدلية يشبه الخوض في حقول الألغام، إلا أن تحري التاريخ لأي شخصية سجلت صفحة من صفحات التاريخ وارتبط حضورها بتاريخ بلد كبير هو أمر مهم، وأهميته تكمن في إسقاط هذا التاريخ على واقع أمتنا العربية الراهن والاستفادة من دروس التاريخ، وكذلك لإنصاف أي شخصية تكالبت عليها سهام الإعلام، وهذا السياق ينسجم مع شخصية الرئيس العراقي صدام حسين الذي كان جزءا من تاريخ العراق الحديث، ورغم إدراكنا التام بحالة  التعصب والغليان لدى البعض بمجرد ذكر اسم صدام حسين أو استحضار تاريخه مما يؤكد على عدم القبول بالرأي الآخر أو محاولة إلغائه وكلاهما أمر مؤسف، فالتاريخ لا يكتب حسب الأهواء والميول والتوجهات، وللأسف الشديد وقع الكثير من وسائل الإعلام في ذلك فغابت المهنية والمصداقية وحلت محلها الاتهامات والتلفيقات والتفسيرات المغلوطة بل والأكاذيب أحيانا كثيرة بقصد إسقاط هذه الشخصيات من صدارة المشهد العربي والدولي، ورغم الجدل الكثير المحيط ببعض الشخصيات فإنها كانت فصلا من فصول التاريخ العربي الحديث وامتلكت إرادة الفعل فسجلت صفحات مضيئة وأخرى قاتمة، وللأسف أن هذا الجدل وطغيان التوجهات والميول لم يقدم للتاريخ والإعلام العربي أي صيغ متوازنة وصادقة ومفيدة، وللعلم تاريخنا العربي مشبع بهكذا تصفيات وإعدامات لضحاياه، وما يؤكد ذلك عبر التاريخ العربي نبش قبور بعض خلفاء الدولة الأموية بعد سقوط خلافتهم تشفيا وحقدا من قبل خلفاء الدولة العباسية، وهكذا هي ملامح التاريخ العربي والإعلام العربي يمارس نفس الفعل في أحداث ماضي أمتنا العربية وحاضرها، وهذا لم يحدث حتى في تاريخ الغزاة الذين اجتاحوا المشرق العربي كالحملات الصليبية والتتار والمغول!!.

تاريخ صدام حسين لا يمكن اختزاله في مقال أو حلقة أو جلسة حوارية نظرا لحجم هذا التاريخ وزخم أحداثه، ولا شك أن هذا التاريخ بطبيعته البشرية كان له نصيبا من النجاح والاخفاق خلال الحقبة الزمنية التي كان فيها صدام حسين جزءا من تاريخ بلده وأمته، وحتى صدام حسين نفسه ذكر في بعض المراجعات الشخصية على وسائل الاعلام ما يؤكد بعض الأخطاء، ففي إحدى الكلمات المنقولة عنه تلفزيونيا تحدث عن الحرب العراقية الايرانية بقوله أننا حجبنا الجانب الخير لإيران، فهو يدرك عبثية تلك الحرب ولكنها فرضت نفسها على الواقع السياسي والجغرافي للبلدين لأسباب معينة، وقد أدرك أن المستفيد منها القوى الاستعمارية، فكم من الأحداث التاريخية لا يمكن منع وقوعها وبعد أن تأخذ مجراها في حركة التاريخ تتبين فواجعها، وفي أحد المقاطع أيضا ذكر صدام حسين أنه لا يقبل أية إساءة في الخميني حسب حديثه باعتبار أن الرجل انتقل الى جوار ربه رافضا أي حديث اعلامي يسيء لخصمه التاريخي وهنا تتجلى الخلق العربية في مثل هذه المواقف، وهناك الكثير من المواقف الاخرى التي قد تبرز حالة مراجعة تاريخية ونقد ذاتي، إلا أن تبقى تأثير الصفات الشخصية الطاغية في تاريخ بعض القيادات تنعكس على ما تسجله على صفحات التاريخ سلبا وإيجاباً.

يشير البعض الى أن الرئيس صدام حسين بقدر ما أنجز بقدر ما دمر بلده في نهاية المطاف ولكن هذا التفسير غير دقيق على الاطلاق، فالعراق بلد عظيم يمتلك من مقومات النهوض والقوة والمنعة ما يضعه منافسا قويا للقوى الاستعمارية في المنطقة مهددا لوجود الكيان الصهيوني، ومن هنا قرارا عالميا بتدميره سواء” وجد النظام الدولي المهيمن عليه من قبل قوى الاستعمار المسوغ والذرائع أو لم يجد تلك الذرائع فالقرار كان ساريا وعلى القوى العالمية التي أوجدت كيان الاحتلال في الوطن العربي تنفيذه بأي شكل من الاشكال، حينها كانت الغطرسة الاستعمارية تعرض عضلاتها شرقا وغربا بعد سقوط نظرية الثنائية القطبية، وبالمقابل وجدت في هذا النظام العراقي خطرا يهدد كيان الاحتلال وخطرا على مصالح القوى العالمية في الاقليم، وأن هذه الدولة العراقية الناهضة والقوية بقيادتها العروبية المتمسكة بحقوق أمتها قادرة على الاضرار بأهم المصالح الغربية في المنطقة وهما النفط و”اسرائيل” وعليه يجب تدمير العراق، كما أن الامر الآخر الذي يجب الاشارة إليه أن العراق بقدراته وموقعة الهام وأهميته الجيواستراتيجية في خارطة الوطن العربي الكبير ما كان له أن يقف على الحياد في قضايا أمته العربية والتاريخ شاهد” على ذلك، فمن الطبيعي لبلد عظيم كالعراق أن يتحرك في أي حدث تاريخي ويمثل رقما قويا وأصيلا في صناعة التاريخ، وليس للعراق أن يكون متفرجا بوجود نظام دولة حازم وقيادة قوية تغلغلت فيها مفردات القومية والعروبة وتشربت العادات العربية لتصل الى حد التهور في تطبيق هذا النموذج، ولا شك أن تحالف خصوم العراق يدركون هذه التفاصيل الشخصية المؤثرة على المشهد العراقي برمته، لذلك كان تدمير العراق يسير كما هو مخطط له، وقد حدث في ظل غياب عربي فاعل عن المشهد بل كانت هناك من القيادات العربية التي ساهمت في تقديم العراق على مقصلة الإعدام.

في هذا المقال سوف نتطرق الى جزئية تاريخية مهمة لم يسلط عليها الضوء حول نوايا القيادة العراقية الهجوم على كيان الاحتلال بين عامي 1989 – 1990م، واستعدادات قوات الحرس الجمهوري العراقي لتلك الحرب التي انحرف مسارها نحو دولة الكويت في منتصف عام 1990م ولله الأمر من قبل ومن بعد، ففي حلقة تلفزيونية خلال شهر أكتوبر الماضي لقناة روسيا اليوم مع الاعلامي المخضرم سلام مسافر الذي استضاف فيها العميد الركن د. وليد عبدالملك الراوي وهو سكرتير وزير الدفاع العراقي سلطان هاشم أحمد – رحمه الله، وجاءت الحلقة أعقاب مؤتمر أربيل لبحث أفق السلام مع “اسرائيل” ومقارنة بموقف العراق السابق في مواجهة هذا الكيان في عهد صدام حسين وموقفه من خلال ذلك المؤتمر، وتذكيرا بتاريخ العراق مع كيان الاحتلال وتركيزا على تلك الحقبة الزمنية التي شهدت تحضيرات لحرب ضد “اسرائيل” لكنها حرب لم تقع وانحرفت بوصلتها للأسف الشديد، فكان انتقاء الاعلامي القدير الاستاذ سلام مسافر باستضافة د. وليد الراوي الذي تواجد قريبا من صنع القرار العسكري، وقد أكد الراوي أنه تم استدعاء قائد الحرس الجمهوري الفريق إياد فتيح الراوي – رحمه الله الى اجتماع مع الرئيس صدام حسين وأبلغ بالاستعداد لمعركة العرب الكبرى مع اسرائيل وكان ذلك في ديسمبر من عام 1988م أي بعد انتهاء الحرب العراقية الايرانية ووقف اطلاق النار بين البلدين الذي تم في 8/8/1988م، وطلب من قائد الحرس الجمهوري التحضير لهذه الحرب، ويذكر العميد الركن وليد الراوي في هذه الحلقة انه كان الضابط الركن الشخصي لقائد الحرس الجمهوري وهذا ما يؤهل د.  وليد الراوي للحديث عن تلك الحقبة الزمنية، ومن خلال المواقع التي شغلها في قيادة الحرس الجمهوري وفي وزارة الدفاع العراقية، وحسب حديث – الراوي. جرت بالفعل تحضيرات لتلك الحرب من خلال قيام القوة الجوية باستطلاع وتصوير جوي لإسرائيل بمحاذاة البحر الميت في الاردن وبخاصية التصوير المائل الذي وصل لمسافة (45) كيلومتر الى عمق اسرائيل وصولا الى القدس الشريف، حينها احتجت اسرائيل لدى الاردن بوجود طيران مجهول لكن الاستطلاع والتصوير الجوي تكرر لأكثر من مرة واخذت قوات الحرس الجمهوري استعداداتها وتحضيراتها للحرب من خلال التمارين وانفتاح القوات مثل فرقة “توكلنا على الله” المدرعة وفرق اخرى عبرت الفرات غربا وأجرت تمارين في مناطق مشابهة لمحاكاة نفس الظروف والبيئة في فلسطين المحتلة، ويشير الراوي الى أن تحركات هذه القوات غرب الفرات يمثل حالة خطر لدى كيان الاحتلال وهذا أمر تكرر سابقا في حرب تشرين عام 1973م بمساندة القوات العراقية لسوريا في تلك الحرب، وفي الثمانينيات عندما هدد الرئيس التركي “تورجوت أوزال” سوريا تحركت القوات العراقية باتجاه الحدود السورية، وكانت الاستعدادات لتلك الحرب وتحركاتها غرب الفرات تمثل قلقا كبيرا في إسرائيل خاصة أنها سوف تسبب ضررا بليغا على كيان الاحتلال في حال نشبت تلك الحرب، ويؤكد الراوي أن قوات الحرس الجمهوري أخذت كل الاحتياطات في الدفاع السلبي والايجابي في حال تعرضها لأي ضربة استباقية من قبل القوات الجوية الإسرائيلية، ويضيف الراوي أن عمليات التصوير الإلكتروني لدى إسرائيل أكدت نوايا العراق بشن حرب ضد إسرائيل، وهذه النوايا لا شك كانت تؤيدها تصريحات الرئيس العراقي صدام حسين في أكثر من لقاء أو اجتماع وهذه التصريحات متداولة على وسائل الاعلام وكانت حديث الاعلام العربي والدولي في تلك المرحلة الزمنية، فقد أعلن صدام حسين في حديثه لدى قيادات عسكرية أن “أي دولة تتجسس على العراق لا تظن أن وراءها دولة عظمى فالعراق لا يهمه أي دولة عظمى” وهدد في نهاية حديثه : “والله لخلي النار تأكل نص إسرائيل” هذا هو لسان حال القيادة العراقية في تلك الفترة الزمنية من التحشيد السياسي والإعلامي والعسكري، وفي حديث آخر أيضا ذكر أن فلسطين تستحق منا التضحية، معاتبا أشقاءه العرب على الصمت في مشاهدة ما يحدث في فلسطين مؤكدا أن أي ضربة على العراق أو أي بلد عربي ستكون الضربة الثانية في تل أبيب، ولم يكن حديث صدام حسين  – رحمه الله – للتسويق الإعلامي بدليل اطلاق (39) صاروخا على إسرائيل أثناء حرب الخليج الثانية، ومن خلال ما سبق يتأكد جدّية العراق في مواجهة الكيان الصهيوني .

وعوداً على بَدْء فيما يتعلق بالاستعداد والتحضيرات لمعركة العرب الكبرى كما وصفها الراوي في حديثه أن القرار السياسي كان بيد القيادة العراقية، أما الاستعدادات فجرت على قدم وساق من قبل القوات العراقية وألوية قوات الحرس الجمهوري التي انفتحت بكامل عتادها لخوض تلك الحرب لاستعادة الحقوق العربية مؤكدا الراوي على أن هذا الفكر للدفاع عن فلسطين واستعادة الحقوق العربية متجذرا في القيادات القومية والوطنية وحتى الاسلامية حسب حديثه، ولكن ما حدث بعد ذلك جنوبا وإثارة مشكلة الكويت وحقول النفط والديون واغراق أسواق النفط والتلاسن الاعلامي الذي مثل القشة التي قصمت ظهر البعير كلها لم تكن بعيدة عن دوافع وتأثيرات خارجية لحرف بوصلة العراق من الشمال الى الجنوب، واستفزاز شخصية صدام حسين المعروف عنها تهورها والذي لا نبرره في هذا السياق خاصة تجاه بلد عربي شقيق، وبعد استنفاذ كل المحاولات الدبلوماسية كان ما كان من الهجوم على دولة الكويت وهو ما تعاني منه الأمة حتى اليوم.

الحديث عن الشخصيات التاريخية في تاريخ أمتنا العربية يتطلب شيئا من الانصاف والامانة رغم أدراكنا بحجم تلك الاخطاء التي أعادت الامة الى الوراء، ولكن يبقى صدام حسين جزء من تاريخ العراق الشقيق بما له وما عليه، فكان العراق يمثل البوابة الشرقية للوطن العربي وكان العراق مهابا يمتلك دولة عظيمة وقوة عسكرية ضخمة وقدرات اقتصادية كبيرة ونهضة علمية وعمرانية، وقيادة قومية عروبية تنهج قيم ومبادى الامة العربية، وهذه كلها كانت كفيلة بإصدار قرار عالمي بتدمير العراق سواءً كان صدام حسين يحكم العراق أو غيره، ولذلك ينبغي أن نفصل التاريخ بحقائقه لا بتوجهات إعلامية وشخصية خاصة، رحم الله صدام حسين وأسكنه فسيح جناته، وأعاد لهذه الأمة صدارتها للتاريخ وعزتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى