هل يمكن للغة التنبؤ بوجود مؤشرات المرض النفسي قبل استفحاله ؟..
الدكتور/ سالم بن محمد الغيلاني
هل يمكن للغة التنبؤ بوجود مؤشرات المرض النفسي قبل استفحاله ؟..
عندما نتحدث عن اللغة فإننا نتحدث عن وسيلة تكشف لنا عمّا بداخل الفرد، وقد قالت العرب سابقاً :
عجبت إزدراء العيي بنفسه
وصمت الذي كان بالقول أعلما
وفي الصمت ستر للعيي وإنما
صحيفة لب المرء أن يتكلما
وقال أحدهم أرني نفسك، ويقصد بها أن تحدث لكي أراك.
بواسطة اللغة نتعرف على شخصيات الآخرين وأنماط سلوكهم ؛ لذلك قد تختلف كلمات الناس ، وتختلف تعبيراتهم واساليبهم ، ومرجع ذلك يعود إلى الاختلاف أو إلى القاموس اللغوي الخاص بكل فرد ، والذي يحوي خبراتهم وتجاربهم ويتبين لك عمق تفكير كل منهم من سطحيته ، كما ينبئك عن البيئة الفكرية لهم.
إذن اللغة تعد من أهم مظاهر السلوك الإنساني ، ومن هنا حظت بعناية اللغويّين وعلماء النفس على حد سواء ، وكل منهم له منهجه في ذلك ، لذا كان الدافع الأساسي إقحام علماء النفس حقل الاضطرابات اللغوية ، تلك الرغبة الجامحة لتزويد معالجي الكلام بإرشادات عامة للمعالجة المنبثقة عن وصف دقيق للسلوك اللغوي عند الأفراد المُعاقين لغوياً.
كما أنه لا يخفى على أحد وجود فرع في الدراسات اللسانية التطبيقية ، تحت مسمى (سيكولوجية اللغة) يهتم بكيفية إدراك الكلام ، وفهم اللغة وإنتاجها واكتسابها ، وهذا يعنى بدراسة اضطرابات اللغة بشكلها الكتابي والمنطوق.
يفضل البعض بأن يطلق على الفرع الذي يدرس اضطرابات اللغة وعلاقتها بالمخ بعلم اللغويات التطبيقية العصبية ، ويتضمن دراسة الجهاز العصبي وعلاقته باضطرابات اللغة والكلام.
إذن من خلال ما سبق : هل هناك مؤشرات معينة تنبئنا بوجود اضطراب سيكولوجي متخفي خلف السلوك التعبيري أو الكتابي ؟
من خلال الدراسات في هذا المجال والتي أتاحت لنا التنبؤ بوجود مؤشرات المرض النفسي قبل أن يستفحل ، ومن ثم العمل على علاج مظاهره ، أو حتى التخفيف من حدة تلك المظاهر ، حيث إن اكتشافها في مرحلة مبكرة يسهم في علاجه والتعامل معه ومن ثم يساعد المرشدين النفسيّين على تقديم العلاج المناسب ؛ إن تحديد
العوامل النفسية والانفعالية التي لها صلة باضطرابات التواصل خاصة في غياب الأسباب الخَلْقية أو العضوية التي قد تكون مسؤولة عن ذلك الاضطراب.
إن علماء النفس يولون عناية خاصة بالسلوك اللفظي لدى الأفراد ، ويعتبرونه أداة مهمة في التعرف على مؤشرات المرض النفسي ، كما يعد أحد الأساليب المهمة التي من خلالها يتم دراسة الاضطراب في التفكير.
كيف نُعَرِّف الحالة السَّوِيَّة للفرد : يُعَرِّفُ علماء النفس الحالة السوية بأنها دائما ما يكون الفرد متوافقا نسبيا مع نفسه ، شاعرا بالسعادة ، متوافقا مع من حوله ، وقادرا على تحقيق ذاته واستقلال قدراته الى اقصى حد ممكن ، كما أنه قادرا على مواجهة مطالب الحياة ومستلزماتها ، وبالتالي هو شخصية متكاملة متوازنة سوية.
من هنا يتضح لنا ان المرض العقلي إنما هو خروج عن الحالة السوية التي أشرنا إليها سابقا.
أما إذا تطرقنا إلى السلوك اللغوي المضطرب أو اللا سوي ، فهو الكلام الخارج عن النظام اللغوي المتعارف عليه والمألوف ، وهذا الخروج ربما يكون في الجانب النطقي أو الكتابي ، ويمكن تعريفه بأنه سلوك لغوي غير عادي متكرر سواء عند الأطفال أو الكبار ، وبالتالي فإن فشل الفرد في تنظيم الكلمات في جمل متماسكة متناسقة ، تعد مؤشر على السلوك اللغوي المضطرب ؛ لذلك فإن من وجهة نظر
سيكولوجية ؛ باعتباره مظهرا ومؤشرا على المرض النفسي ، ويمكن تعريفه بأنه اضطراب طويل المدى في إنتاج الكلام أو في إدراكه.
والكلام المضطرب هو الكلام الذي ينحرف ويختلف عن كلام الآخرين ، ويكون لافتا للنظر والانتباه ، بل ويسبب سوء التوافق بين المتكلم وبيئته الاجتماعية ، وقد تكون هذه الاضطرابات عضوية أو وظيفية ؛ من خلال ذلك يمكننا ان نكتشف بعض الأعراض العصابية أو الأعراض الذهانية في كتابات بعض الأفراد ، فعلى سبيل المثال تظهر الأعراض العصابية في حديث أو كتابة الفرد نتيجة انعكاسات نفسيه مبالغ فيها ، أو في حاله نفسية غير مستقرة ، ومن تلك الأعراض : زيادة القلق يودي إلى الحبسة التعبيرية ، والحبسة النفسانية والمبالغة في الإجابة على الأسئلة ؛ ما قد ينسي الطالب كتابة اسمه أو ينسى الإجابة ذاتها بسبب رهاب الاختبار ، والقلق يعد من الاضطرابات العصابية ، وهو يكاد السِّمَه المميزة لكثير من الاضطرابات السلوكية والذهانية.
وإذا ما تطرقنا إلى مظاهر الكتابة عند الشخصية الهيستيرية نلاحظ الاستعجال في الإجابة، والاختصار دون التطرق إلى التفاصيل في الحدث.
علما بأن الشخصية الهيستيرية ليست مرضا ، ولكنه تَقَلُّب في العاطفة ، والتغير السريع في الوجدان بأتفه الأسباب ، كما أنه سريع التأثر بالأحداث اليومية ؛ أما عند الانفصاميّين تنعكس الاضطرابات في المستويات اللغوية على الأداء الكتابي ، وتتسم أهم أعراض ذلك في كتاباتهم بالآتي:
من حيث محتوى الأفكار :
– عدم الترابط بين الأفكار.
– المزاجية في الطرح.
– تفكك الأفكار.
من حيث البناء اللغوي :
– اللغة غير واضحة وبعيدة عن الواقع.
– اللغة الانفعالية والمتناقضة.
– لغة وظيفية تعبيرية أكثر من كونها تخاطبيه.
أما مظاهر الاضطراب اللغوي عند مرضى الاكتئاب الذهاني :
يعاني صاحب هذا النمط من الشخصية باليأس والعجز وغياب تقدير الذات ، كما يغلب عليه التشاؤم والشعور المزمن بالشقاء والتعاسة ، وسيطرة مظاهر البؤس والكآبة وسوء المزاج ، والاعتقادات السلبية ، وبالتالي فإن هذا الاكتئاب يسيطر على التفكير والمزاج وبالتالي يصعب سيطرته على السلوك.
أما نظرة المكتئب فهي نظرة سلبيه للذات والعالم ، وتوقعات غير سارة عن المستقبل ، والاعتقاد السائد لديهم بأنهم لن يتحسنوا مطلقا ؛ أما بالنسبة لاضطرابات اللغة لديهم:
– تجد لدى المكتئب خمولا لغويا واضحا يتبين لك من خلال محاورته للآخرين ، كما لديه انخفاضا في النشاط الكتابي.
– لغة يسودها الحزن وكلمات الإحباط.
– استخدام مفردات خاصه بهم مثل : الـ جدوى من الحياة، الـ خير في الناس ، وكل من حولنا مجرد وحوش.
علاج اضطرابات اللغة :
إن الباحثين في سيكولوجيه اللغة أشاروا الى عدة أنواع من العلاج لهذه الاضطرابات المختلفة سواء كانت نطقية أو كتابية ، ولهم أبحاثهم ومراجعهم العلمية وفق ما تقتضيه الحالة ، ومن الوصايا المهمة في موروثنا : الصمت يورث الحبسة والحصر ، وإن اللسان إذا قلب وأدير بالقول كان أطلق له.
وجاء في ديوان المعاني:
ناطقة فتى من بعض أهل القرى، فوجدته ذليق اللسان، فقلت له : من أين لك هذه الذلاقة ؟ قال: كنت أعمد كل يوم إلى خمسين ورقة من كتب الجاحظ فأقرأها برفع الصوت ، فلم أجر على ذلك مدة حتى صرت كما ترى.
وختاما نؤكد أن اللغة عنصر مهم ، وتعتبر أداة رئيسية في أغلب أنواع الاختبارات التي تُجْرى على المفحوصين لتشخيص الاضطرابات التي يعانوا منها سواء كانت عصابية أم ذهانية وبالتالي اكتشاف المرض النفسي.
كما أن للسلوك اللغوي أهميته القصوى في تحليل سلوك المرضى النفسيين وتميزهم عن الأسوياء، وأنهم هو الذي يكشف المريض الانفصامي ويرشد إلى طبيعة مرضه ، أيضا يساهم تحليل اللغة المطلوبة إلى الكشف وتحليل المشاكل النفسية التي يعاني منها البعض.