بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

شـكـوى الـحـب..

إسحاق بن أحمد البلوشي

Isehaq26927m@gmail.com

 

شـكـوى الـحـب..

 

إن مقالتي هذه شيء مني وأنا منها ؛ فهي تلامس الروح مكمن الحياة وموطن أسرارها وتجاور النفس بعيدة عن المادة وجمودها، سأجود بشيء من مشاعري في ألفاظها وبين سطورها وسأكتم عن أخرى لا أبوح بها، ففي بواعثها وابتدائها الشكوى ولكن في مقاصدها وانتهائها الحب.

في مذهبي إذا وجد الحب في قلب وابتدأ؛ كأنما بدأت الحياة في ذلك القلب من أول أنفاسها؛ فيمتلىء حياة بحياة وتتغير أحواله حالاً بعد حال، حتى يصل إلى معاني الكمال فيبلغ منهجاً من مناهج الفلسفة العليا وسراً من أسرارها لو تكلم بها قال هكذا (أنا وحدي الحياة)، وفي مذهبي أن للحب أوصافا لا يتصف بها إلا الذين حملوا في صدورهم روحاً جميلة كجمال أوراق الزهر، ونفساً طيبة كطيب أنفاس الفجر، وان ما تصنعه كلمات الشاعر على الحياة والطبيعة من فعل وسحر يصنعه الحب في قلب صاحبه من رفعة وسمو، فيورثه جمالاً وطهرا كأنما تقاسم ذلك القلب مع الملائكة روحها وجمالها فأصبح قوةً سماوية ليس لها حد.

الحب في طبيعته محضٌ غير ممذوق، وصافٍ غير ممزوج، ليس له رسم ولا حدود فهو لكل طالب صديق ولكل ولهان رفيق ولكن لكل انسان مسلك في الحب وما يجد من ذلك الحب في نفسه وروحه، فربما يكون الحب في وطن عظيم أو يكون في صديق حميم، وربما يكون في امرأة جميلة يراها أويتخيلها أو في زوجة لا تفارق خياله ولا تودع روحه فهي كائن فيه وهو كائن منها، وربما يكون ذلك القلب خالياً ليس فيه شيء من الحب لأنه لا يعي شيئا من معانيه فهو حي بلا حياة وميت بلا موت.

لكن لماذا اختلف الحب هذه الأيام ؟! ولماذا اختلفت معانيه ؟! لماذا أصبح الحب أشكالا كثيرة بلا معنى ؟! لماذا يموت الحب هذه الأيام كل لحظة مئات المرات ؟! ولماذا ينتهي الحب العظيم الذي نادى به أصحابه سريعا ولا يلبث إلا ساعة من نهار ؟! هل يستطيع أحد بيننا أن يتحدث ويصف أفعال حبه كما فعلت أفعال بعض الماضين في الحب ومعانيه ؟! لماذا بقي حبهم إلى يومنا هذا يتحدث عن نفسه ؟! ولماذا فازوا بالحب كله ولم يخونوا الحب ولم يخنهم الحب ؟! أسئلة تتبادر الى الروح وتبحث عنها النفس يقف المقال على بعض من معانيها ليكشف شيئا من ظلم إنسان اليوم وقسوته على الحب.

لو أني سُئِلْت تسميةً لعلوم الحب لسميتها (علوم إخلاص القلوب) ؛ لأن الحب الذي لا يترك في القلوب إخلاصا يعيد إليها رجولتها وشبابها ويعيد أطوار النفس إلى طبيعتها لا يسمى ذلك حبا إلا بمنظور ذلك اللص الذي يسرق ليتصدق فيسميها صدقة ، فمن أثر الإخلاص أن نجد المحب الذي أغرق وأمعن في الحب ، وفي تفاصيله ومعانيه الدقيقة ؛ يرى في أعماق هذه النفس ما لا يراه غيره ، ويجد في عواطفه وروحه ما لا يجده سواه ، فلو تناغم له وقت من حبيبته وجدها فوق هذا العالم بأسره ووجد كل ما في هذا الوجود يتنحى جانبا أمام خطواتها ، ووجد حدائق الورود والأزهار راكعة لطيب عطرها ، والنحل ساجدا لعذوبة ريقها ، فهي كل الأشياء وليست من الأشياء ، وهي في نفسه عالم وحده بجوار هذا العالم ووجود بجوار هذا الوجود.

ولو أنك سألت مُحِبّاً تجاوز عن إخلاصه في حبه لمحبوبته وقد تعدى على ذلك الحب وخاصمه بما أفسده ، لوجدت ألم ذلك في نفسه وروحه كما يجد ذلك المريض من ألم في جسده إذا تجاوز عن وصفة الطبيب ، لأن الله أودع في هذه النفس صفات لا يستقيم شأنه إلا بها ؛ ولا يتوازن أمره بدونها ، فبالإخلاص يحيى حياة خالدة لا فناء معها ، ويعيش ذلك القلب مجتمعاً في إيمانه ، شامخاً شموخ الجبال أمام رياح العواطف المذلة ، ووساوس النفس المخلة ، فيكون ذلك القلب سر الجمال وطبيعته ؛ فلا تدري هل وهبه الله ذلك الجمال أم هو وهب للجمال.

ما كثرت وطغت أخطاء التفسير والتأويل في شيء كما كثرت وطغت في تفسير كُنه الحب وتأويلاته هذه الأيام ، لأنها الحقيقة التي لا يمكن الوصول اليها إلا عن طريق القلب ولا تطلب إلا من الروح ، فلو نظرت في هذا الكون وفتَّشْت عنها في هذا العالم لجئت بملء هذا العالم بهتاناً وزوراً وكلاماً مُضَلِّلاً وإفْكاً عظيماً على الحب.

الحب في حقيقته إنما هو شيء من روح الحبيبة ؛ يتمكن من النفس فيحدث فكراً يسري في أنحاء جسده ، ويجري في عروقه مجرى الدم فيها ؛ فيتحكم ذلك الحب من القلب فيكون مقيداً ، وكأنه بين الأغلال والأصفاد لا يستطيع الفكاك منها ، فهو أسير مسجون مقيد مجنون ، ولو اجتمعت الإنس والجن ما استطاعت أن تفك قيده أو تحرر أسره ، وليس لأحد ذلك سوى الحبيبة ؛ فهي القفل ، وهي المفتاح ، لو أقبلت بوجهها تفكَّكت الأغلال ، ولو تبسمت تكسَّرت الأصفاد ، ولو تنهَّدت رد للمجنون عقله ، ولو جادت بنظرتها لوقعت الواقعة ، وجاءت الزلزلة ، وانشق قلب المحب إلى نصفين ؛ نصف في الجنة ، ونصف في النار .. آآه من الحب.

ما أتعس المُحبّين وما أشقاهم ! فقد تسلط عليهم فكر الحب فأحدث في النفس الخلل ، وفي العقل الجدل ، فقد سبقهم في ذلك (مجنون ليلى) وقد لاقى من العذاب والمصائب في ذلك (عنتر عبلة) ؛ فهي قضية النفس الكبرى ، وعُقْدة العقل التي لا تحل ، فالمحب مع سعة دنياه في ضيق وشقاء إذا هجره محبوبه ، وهو مع سعة رغباته وملذاته في محنة وألم إذا لم يتقاسمها مع محبوبه ، فالمحب حقيقة يعيش مع الناس وليس مع الناس ؛ فهو في عالم آخر ؛ عالم محبوبته يأكل ويشرب لجوعها وعطشها ، ويسمع بسمعها ، ويرى بعينيها ؛ فهو روحين في جسد وجسدين في روح.

يا من تدَّعي أنك قاموس الحب وتفسيره ، ليس الحب وردةً تُهْدى أو قُبلةً تُخْفى أو ضمَّةً أو شمَّة، ويا من تدعين أنك قانون الحب ونظامه ، ليس الحب أياد تتحرك فوق بعضها ، وأرجل تهتز تحت بعضها ، ويا من تدَّعون الحب والجمال ليس الحب أكواب قهوة في المقاهي والحانات تلونت بأنواع القبلات ، وتلطخت بألوان الشفاه ونشرٍ للصور .. فوا أسفي !! الحب هو تلك المسحة السماوية التي مسحت على ذلك العقل التائه المبعثر فاستجمع رشده ، والحب ذلك الوحي الذي نزل على تلك النفس برسالة الحب فأصبح يمشي بين الناس وكأنه الإخلاص في ثوب آدمي ، وإذا خرج على البشر كأنه نور الإيمان حل على قلوب الأنام ، فتميل إليه النفوس إذا مال كما تميل الأغصان على الأغصان ؛ فهو قانون الجاذبية والحياة ، فإذا رأته السحابة أمطرت ، وإذا رأته الورود أزهرت ، وإذا أقبل على الينابيع تفجرت ، فهو الحياة ، وبه الحياة ، ومنه الحياة والمعجزات.

عذراً أيها الحب فقد تعدّى عليك إنسان اليوم ، وألصق بك أساليب الخداع والنفاق وشيئا من مكائد الفُسّاق ، ومهما قلت فلا يزال بعد الكلام ظلم خافٍ عليك من البشر ، وظلم على ذلك المعنى العظيم الذي هو أنت ، والذي في طبيعيته طبيعة ، وفي أصله روح وجمال ، ولو تحدثت عن ذلك ما أبقيت ، ولو استطردت ما انتهيت ، عذراً أيها الحب فهل أنت عاذر ؟.
عذرا أيها الحب فقد ظلمك إنسان اليوم بجهله وبانحراف شهواته ، فأثار عليك شيئا من غبار حيوانيته التي مسخت الإخلاص مسخا ، وقتلت المروءة قتلاً ، ولم يجد الحياء مكاناً له بين هذا وذاك ، ولا أريد أن أثقل عليك من روائع قصصهم ؛ فإنها أفرغت في قلبي المتألم بهمٍ وأيُّ هم ، فغدت مشاعري تزفر ، وعواطفي تغلي كما يغلي المرجل ، ولو سُكبت عليه مياه البحار والأنهار ما أطفأت شيئا من لهيبه ، عذرا أيها الحب فهل أنت عاذر ؟.

ليت شعري هل سنرى في أيام عصرنا هذا حباً في جاهليته يوازي حب عنترة ؟، وليت شعري هل ستتذكر الأجيال من عصرنا هذا حباً في رجاحة عقله كحب مجنون ليلى ؟، أم أن الحب أصبح أشكالاً تموت قبل أن تولد ، وصوراً تحترق قبل أن توجد ؟!، فيا عجبي ويا عجبي!!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى