بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

ذكرياتي مع الـ “بي بي سي”..

زاهر بن حارث المحروقي

 

* ذكرياتي مع الـ “بي بي سي”..

 

أثار الخبر عن قرار إيقاف الإذاعة العربية للبي بي سي يوم الخميس التاسع والعشرين من سبتمبر 2022، نقاشات واسعة في العالم العربي، بين مؤيد ومعارض.

ووصف معارضو الخطوة أنّ القرار كان كارثيًا، وذلك بسبب شعبية الإذاعة ومكانتها في العالم العربي، فيما رأى آخرون أنّ الإذاعة لم تكن إلا أداة استعمارية، وأنّ هناك حاليًا بدائل عربية تقوم بالدور نفسه، وتحدّث كثيرون بعاطفة عن ذكريات خاصة يحملونها عن هذه الإذاعة، وهي ذكريات ارتبطت بآبائهم وأجدادهم الراحلين، وقد أكون واحدًا من هؤلاء، إذ ربطتني بهذه الإذاعة علاقةٌ حميمةٌ تمتد إلى طفولتي، قبل سنين طويلة من عملي مراسلًا لها في مسقط؛ كانت بالنسبة لي الإذاعةَ النموذج، ولقد أشرتُ إلى هذه العلاقة في كتابي “سارق المنشار”، ورويتُ أنّ بعضًا ممّن كانوا يرتادون دكان أبي رحمه الله في روي كانوا يسألونني : هل والدك يفتح الراديو لكي يتابعك وأنت تقرأ نشرات الأخبار؟ وكانت إجابتي إنّ حبَّ أبي للراديو هو الذي جعلني أحب الإذاعة بشغف، وأستطيع أن أزعم أنني منذ صغري كنتُ أعرف معظم مذيعي البي بي سي، وكذلك معظم برامجها، خاصة أنّ العم عبد الله بن خلفان المحروقي كان يتابع البي بي سي كثيرًا ويفتح الراديو أمام دكانه كلِّ يوم جمعة عندما كانت البي بي سي تبث قراءة مجوّدة من القرآن الكريم بصوت الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد، وهي التي ساهمت بالتعريف به على مستوى العالم.

وأذكر أننا عرفنا عن حرب أكتوبر عام 73 أو العاشر من رمضان، عن طريق البي بي سي، عندما كان العم علي بن خلفان المحروقي ينتظرنا كلَّ ليلة للذهاب إلى صلاة العشاء والتراويح في مسجد الرحبة في ولاية أدم، عندما قال لأبي إنّ الحرب قد قامت بين العرب وإسرائيل، فرأيتُ أبي وقد تفاجأ بالخبر، ومنها بدأنا في متابعة أخبار الحرب.

كنتُ حريصًا أن أتابع بعض البرامج مثل “السياسة بين السائل والمجيب” و”قولٌ على قول” و”خمس دقائق”، وكنتُ معجبًا جدًا بالمذيعة مديحة رشيد المدفعي، وهدى الرشيد، وماجد سرحان، ومحمد الأزرق (وقد عرفتُ أنه مغربيّ يشتغل في السفارة العمانية في لندن)، ومحمد مصطفى رمضان، ومحمد الصالح الصيد، وحسام أحمد شبلاق، وفؤاد عبد الرازق، وسلوى الجراح، وسحر قراعين التي تعاملتُ معها كثيرًا وأنا مراسلٌ للإذاعة، ومؤتمن الجزار، الذي عرفته عن قرب عندما اشتغل خبيراً إذاعياً في إذاعتنا، والسوداني أيوب صدِّيق الذي كان مراسلًا للبي بي سي في السودان قبل أن يلتحق بالإذاعة في لندن منتصف السبعينيات، وهو الذي حافظ على لكنته السودانية ولم يغيِّرها، وهذا كان في رأيي من أسباب نجاحه، بالإضافةً إلى رخامة صوته وأدائه بالتأكيد؛ وغيرهم كثيرون طبعًا، ولا يمكن أن ننسى مذيعي البي بي سي، الذين انتقلوا إلى قناة الجزيرة مثل جميل عازر وسامي حدّاد وفيصل القاسم؛ وهم مذيعون متمكنون.

قال لي مرةً أحدُ زبائن دكان أبي في روي، – وهو يستمع إلى اسم قارئ النشرة بعد دقات “بيج بن” التاريخية، محمد الصالح الصيد، قال “إنّ هذا المذيع عماني”؛ قلتُ له : “لا أعتقد ذلك”، فقال : “عندنا عائلة الصيد في الباطنة”؛ قلتُ: “ربما يكون هذا مجرد تشابه في الألقاب”، ومن تلك اللحظة سيطرَتْ عليّ فكرة وجود عمانيين في البي بي سي وفي المحطات الأخرى، وكنتُ أتساءل : “متى سنرى العمانيّين، إعلاميّين ومهندسين وأطباء وطيارين خارج عُمان ؟ ثم ما الذي ينقص العمانيّين حتى يكونوا مذيعين في البي بي سي وغيرها؟”، وعند دخولي للعمل في الإذاعة، عرفتُ أنّ الأستاذ ذياب بن صخر العامري كان مراسلًا للبي بي سي في عُمان لفترة من الوقت، وأنّه تدرب في البي بي سي مع الزملاء عبد الرحيم عيسى وحسن بن سالم الفارسي وعبد العزيز بن علي السعدون، وكثيرًا ما حكى لي الزميل حسن سالم عن الراحل محمد مصطفى رمضان الذي قُتل في ساحة المركز الإسلامي في لندن، بُعيد صلاة الجمعة عام 1980، وكان يقول : إنّ مصطفى رمضان كان يأخذ سجادته أينما حلّ، وكان حسن كثيرًا ما يترحَّم عليه، لدرجة أني أحببتُه دون أن أراه.

دارت نقاشاتٌ كثيرة عن دقة مذيعي البي بي سي، بيني وبين الزميل محمود المسلمي عندما كان معارًا لإذاعة سلطنة عُمان من إذاعة “صوت العرب”، ولم نكن نعلم أنّ المسلمي سيصبح بعد سنوات قليلة من أهمِّ مذيعي تلك الإذاعة؛ كما أني لم أكن أعلم أني سأكون بعد سنوات مراسلًا لتلك الإذاعة في سلطنة عُمان. وكان ذلك في أحد أيام عام 2001 عندما طلب مني وزير الإعلام آنذاك أ. حمد الراشدي أن أكون مراسلًا لهذه الإذاعة العريقة؛ في البداية اعتذرتُ له عن قبول المهمة بلطف، لكنني فوجئت بالدكتور فؤاد عبدالرازق من أخبار البي بي سي يكلمني أثناء زيارته للسلطنة قائلًا : إنّ معالي الوزير طلب منه إقناعي، لأنه يرى أنني كفؤ لهذه المهمة؛ هنا كان لا بد لي أن أكون صريحًا مع الدكتور وأبث له مخاوفي أمام الزميل حسن سالم؛ فأنْ تكون مراسلًا للبي بي سي فالمهمة شاقة وصعبة ومتعبة، والصعوبة تكمن في أنّ هذا المراسل يكون مطلوبًا منه أن يكون مهنيًا بسبب خطّها المعروف، وألا يُغضب في الآن ذاته مسؤولي وزارة الإعلام التي لها أيضًا خطُّها المعروف الذي لا يسير بالضرورة في نفس خط سير الإذاعة؛ لكن د. فؤاد قال بدماثة أخجلتْني : “نحن سنتعاون معك إلى أقصى حد، وستكون هناك آلية مشتركة نتفق فيها على نوعية الأخبار المختارة، وأنت جرِّب، وإذا لم ترتح للتجربة يمكن لك أن تعتذر”. أعطيتُ موافقتي للدكتور، رغم إحساس داخليّ كان يعتريني بأنني لن أعمر كثيرًا في هذه المهمة، وأخذ د. فؤاد تسجيلًا صوتيًا لي وأنا أقرأ بعض الأخبار حتى يعرضه للمسؤولين في لندن، وقد استدعاني الوزير وأثنى عليّ، وقال في الحقيقة كلامًا تشجيعيًا جميلًا يشكر عليه، وهو كلام أخجلني، فأصبحتُ مراسل البي بي السي في سلطنة عُمان، وفي العادة، فإنّ كلَّ مراسلي الصحف ووسائل الإعلام لا بد من اعتمادهم من قبل وزارة الإعلام في أيِّ بلد في العالم، غير أنّ ما تمتاز به إذاعة البي بي سي، وأيضًا أضيف إليها إذاعة مونتي كارلو التي كان مراسلها الزميل حسن سالم، أنّ هاتين الإذاعتين تحظيان بأهمية خاصة لدى المسؤولين العُمانيين لشعبيتهما الجارفة؛ لذا فإنهم يحرصون أن يكون مراسلا هاتين الإذاعتين موظفيْن في وزارة الإعلام ليسهل عليهم تمرير بعض الأخبار فيهما، في حين أنّ مسؤولي البي بي سي يشددون على استقلالية مراسليهم.

على أية حال، بُثَّ أول تقرير لي كمراسل في البي بي سي في أكتوبر من عام 2001م، وكان عن مناورات “السيف السريع” وهي المناورات العمانية البريطانية المشتركة التي تجرى في كلِّ خمس سنوات، وكان مستلم التقرير هو حمدي فرج الله، الذي رحّب بي كثيرًا قائلًا إنّ د. فؤاد أوصاه بي خيرًا، لذا فقد استمع مني إلى التقرير قبل تسجيله وعدّله، وأرشدني إلى النطق الصحيح لبعض الأسماء الأجنبية الواردة فيه. واستمرت بعد ذلك الرحلة التي كانت أبرز محطاتها الحرب الأمريكية على أفغانستان. وأستطيع القول إنني غطيتُها تغطيةً مناسبةً – رغم شح المصادر-.

ولم تمض أيام قليلة على تقرير “السيف السريع” حتى خرج طلبة كلية الشريعة والقانون في أول مسيرة عمانية وخليجية ضد الحرب الأمريكية على أفغانستان في 8 أكتوبر 2001، وأذكر أنني بمجرد أن أخبرتُ المحرر المناوب في البي بي سي حسن معوّض (مسؤول الأخبار حينها في البي بي سي، والذي انتقل إلى قناة العربية) بأنّ لديَّ تقريرًا عن مظاهرات في مسقط، سألني فورًا : “هل هي تأييد لأمريكا؟!”، قلتُ : “بل هي ضد أمريكا”، فصرخ في صالة التحرير : “مظاهراتٌ في عُمان ضد الحرب”، وتم بث هذا التقرير أكثر من مرة.

للقارئ أن يتخيّل معاناة إعلامي وضعتْه الظروف بين جهتين إعلاميتين شبه متناقضتين، فقد عانيتُ كثيرًا على مدى ثلاث سنوات كنتُ خلالها مراسلًا لهذه الإذاعة العالمية في محاولة الموازنة بين متطلبات المهنية التي تنشدها البي بي سي، وبين محاولات الاستجابة لطلبات المسؤولين بتغطية أخبار بعينها دون إراقة ماء المهنية، بيد أنّ المهنية وحدها لم تكن الفيصل في قبول محرري البي بي سي تقاريري أو رفضها، فهناك نوعية من الأخبار – حتى وإن كانت مصوغة بشكل مهني – إلا أنها كانت تُرفض لأنّ البي بي سي لا تحبّذ هذه النوعية من الأخبار، وأستذكر الآن كيف أنني اجتهدتُ وبذلتُ جهدًا فوق طاقتي، لدرجة أن أرسل أحيانًا في شهر واحد عشرين تقريرًا من بلد هادئ؛ وقد استمر عملي مراسلًا للبي بي سي ثلاث سنوات، وإضافة إلى التغطيات السياسية، كنتُ كثيرًا ما أغطي الفعاليات الاجتماعية التي تذاع في فترة الفجر.

لقد كان خبر إغلاق الخدمة العربية للبي بي سي، بعد 84 عامًا صادمًا ومحزنًا جدًا لملايين المستمعين حول العالم، لأنّ كلّ هؤلاء المستمعين لهم ذكريات عاطفية مع تلك الإذاعة، وهي ذكريات آبائهم وأجدادهم الراحلين.

 

 

*  تم نشر المقال بموافقة الكاتب ؛ نقلاً من جريدة عمان .. عدد الاثنين 10 أكتوبر 2022م.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى