فَل والحَبِّي والمعمور..
ماجـد بن محمـد الوهـيـبي
فَل والحَبِّي والمعمور..
مع دخول وقت الشتاء وتلطف الأجواء، يستحسن البعض كثرة الخروج للتنزه والرحلات وربما الإكثار من الزيارات، فيما يرى آخرون المتعة في القيام بهذه الأمور في فترة الصيف.
ولكل فريق أسبابه واستحبابه، فأنصار الشتاء يميلون كل الميل للأجواء اللطيفة والنسمات الباردة التي تبعث في النفس الأريحية والتنقل بين الأماكن دون منغصات وكدر وقد خفت حدة حرارة الشمس.
وأنصار الصيف يعشقون الخروج فيه بحثًا عن مواطن المياه الباردة، فينعمون بالتخييم قربها وللاستفادة من تلك المياه في أغراض شتى، فهذه الأماكن فرصة لاستمتاع الجميع بالسباحة فيها مع الحذر لا سيما للأطفال أو من لا يحسن السباحة والعوم.
وأما بالنسبة للزيارات فلا تقتصر في وقت معين ، ويكون الوصل بها في كل الأوقات وتبقى هي مسألة استحباب ، وقد قطعنا وعدًا بالزيارة منذ فترة مع الأحبة في بعض قرى ولاية بهلا العريقة لا سيما فَل والحَبِّي والمعمور.
ولكن الظروف حالت دون الهمة بتعجيل هذه الزيارة، ثم تحققت يوم الخميس الفائت، حيث تواصل معي ابن خال الوالد خالد بن عبدالله بن علي الوهيبي، ومن حسن الحظ أنني كنت في إجازة من العمل في ذلك اليوم.
وحقيقة الأمر أن خالدًا هذا هو من عرفني على هؤلاء الأحبة، فانطلقنا في الصباح الباكر من يوم الخميس الفائت وكان بصحبتنا أيضًا إبراهيم بن عيسى بن سليمان الشعيلي، وقد مرا عليّ جزاهما الله خيرا بعد صلاة الفجر حيث كنت بانتظارهما.
وقد حمل إبراهيم معه كعادته زاد الطريق من ماء وقهوة وشاي وإفطار شهي وهكذا هم الأوفياء لا تفوتهم هذه الأشياء، فتوقفنا في منتصف الطريق لتناول الإفطار الخفيف تحت ظل شجرة من أشجار السمر.
ثم واصلنا المسير إلى الأحبة، فوصلنا أولًا قرية فَل منزل العم الكريم يعقوب بن سليمان بن سالم الشعيلي وكان ولده ناجي في انتظارنا ،كما كان الشهم حمد بن سعود بن حمد الشعيلي يتواصل معنا طوال الطريق، وقد انتظرنا قدومه لبيت العم يعقوب لتناول القهوة والإفطار.
سألنا عن الوالد يعقوب فقيل لنا أنه ذهب لعزاء أحد أهل المنطقة في جامع البلاد ، وما هي إلا لحظات ويدخل علينا العم يعقوب بوجهه البشوش فسلم علينا بحرارة وسألنا عن العلوم والأخبار، فقلنا له ها نحن أتينا اليوم للزيارة وفاءً بالعهد فقال جزاكم الله خيرًا.
كان برنامج الزيارة مع الشهم الهُمام، حمد الشعيلي أبا يوسف فقال : ستذهبون الآن برفقتنا للعزاء أولًا، ثم نذهب لمنزلي في قرية الحَبّي لتناول القهوة، ولعمري كم من فوالة أكلنا منها قبل الغداء، وهكذا هم أهل الكرم لم يتركوا لنا بُدّاً من ذلك والحمد لله على نعمة الوصل واللقاء.
وفعلًا ذهبنا لبيت حمد الشعيلي بعد العزاء، وكنا نتجاذب أطراف الحديث عن العلم والعلماء وأهل الفضل الأتقياء من الأئمة الأعلام والمشايخ النجباء، فأتى ذكر الشيخ العالم الزاهد الورع درويش بن جمعة بن عمر المحروقي صاحب كتاب الدلائل، والإمام نور الدين السالمي والإمام محمد بن عبدالله الخليلي رحمهم الله.
كما حدثنا عن والده رحمه الله وكل من مات من إخوانه وأقاربه، فسألته هل بقي معهم من الأسلاف العلماء في المنطقة أحد قال : نعم؛ الشيخ الأديب يوسف بن حمد بن محمد العُميري، فقلتُ له هل يمكننا زيارته ؟ قال : سنحاول إن تيسر الأمر.
استأذنا حمد بالخروج لنزور في المعمور والد رفيق الرحلة إبراهيم، وقال لنا هكذا بالحرف للسلام عليه فقط، ولن أكلفكم بالقهوة لاسيما وقد أذّن المؤذن للظهر، وصلنا إلى المعمور وخرج لنا العم عيسى بن سليمان الشعيلي فترجلنا من المركبة لنسلم عليه، فبادرنا بالابتسامة أولًا ثم بالعتاب.
حيث قال : ما هذا الجفاء، تشترطون عدم تناول القهوة معنا وتكتفون بالسلام ؟، فأجبته قائلًا هذه رغبة ولدك إبراهيم فهو من اقترح هذا، وأنا أقول هذا الكلام أمامك وأمامه، ثم إن أذان الظهر قد أذّن وهذا وقت صلاة؛ قال صدقت وذاك إمام المسجد قد خرج هو الآخر للصلاة، ثم أردف قائلًا متى ستأتونني المساء أم على العشاء؛ فنظر بعضنا إلى البعض، فعاجلنا بقوله : (مالكم تترابيوا متى هتجيوني)، قلنا له لعلها ستكون زيارة خاصة قال : أنتظركم في إجازة العيد الوطني قلت : لعلنا نتمكن من ذلك.
ذهبنا للصلاة بعد ذلك لنعود للحَبّي؛ بعدها لتناول الغداء في منزل حمد الشعيلي، وقد أعد العُدَّة وأكرمنا من طيب الأُدام ولذيذ الطعام، ومكثنا معه لقرب أذان العصر، ثم تواصل مع الشيخ الأديب يوسف بن حمد بن محمد العميري واستأذنه بالزيارة.
قال حمد للشيخ : هل الوقت مناسب الآن للزيارة، قال : نعم تفضلوا؛ ذهبنا لزيارة الشيخ وهو قد شارف على التسعين فيما أحسب، وهو لا يبرح الفراش، دخلنا عليه وإذا به أنور الوجه، كث اللحية، عليه وقارٌ وهيبة، سلمنا عليه فقال : ما هذه الوجوه الطيبة أهلًا وسهلًا بكم.
جلست بالقرب منه فافتتح حديثه بذكر أحاديث الرسولﷺ ثم ما نظمه من أبيات في الأخلاق، وقد أدرك والده الإمام محمد بن عبدالله الخليلي رحمهما الله، فقلت له هل رأيت الإمام محمد بن عبدالله الخليلي ؟ قال لا كنت حينها صغيرًا، ولكني رأيته في المنام قلت : له صفه لي قال : نحيل الجسد، وأذكر أني سمعت من شيخي سعيد بن خلف الخروصي رحمه الله أنه كان يرى الإمام الخليلي كذلك في المنام، ووصفه لي بأنه بهي الطلعة وليس له شبيهٌ في هذا الزمان.
ثم ذكرت للشيخ يوسف أشياخي فبكى ووصفهم بالعلم والأخلاق لاسيما من ترددت عليهم كثيراً، وهما الشيخان سعيد بن خلف الخروصي وسعيد بن حمد الحارثي، كما ذكرت له بعض أبياتي كالبيتين في مقدمة الأذكار وقد قلتُ فيهما :
لنفسك خص أذكارا
وطر مع كل من طارا
وصُم عن كل معصيةٍ
تكن في الذكر طيارا
ومما رثيتُ به والدي رحمه الله :
ألا يا أبي يا عظيم المقام
ذرفتُ الدموع مِرارًا سجام
ألا يا أبي أين حلوُ الكلام
وأين الخروجُ معًا يا هُمام
ألا يا أبي أنت رمز العطاء
إليك الدموع عليك السلام
بذلتَ المزيد دفنتَ الغراس
حصدت الأجور تركت الحُطام
فذكر لي حديث رسول الله ﷺ (إن من الشعر لحكمة)؛ أو كما قال رسول الله ﷺ، وإن فيما ذكرته أنت لحكمة.
فسألته عن نظمه فقال النية أن يطبع نظمه في كتاب، استأذنت الشيخ بتصويره منفردًا ثم التصوير معه فرحب جزاه الله عنا خيراً ونفع به.
قلت : للإخوة عجّلوا بطباعة كتابه حتى يرى هذا الأثر في حياته، وكان الشيخ يتحدث ويستشهد بأقوال الإمام السالمي وولده الشيخ محمد المعروف بالشيبة رحمهما الله، فهو دائم الوفاء لأشياخه، ويحن للأئمة ويشتاق لرؤيتهم، وقد ذكرت له ما جمعته من الأذكار في كتاب عجائب الأسرار.
فسألني أهو مطبوع قلت : له نعم ولله الحمد بجهود الإخوة والمشايخ، وفي حقيقة الأمر لم أشبع من الحديث معه وقد غشاني نوره فقبلت له يده ورأسه مودعًا له، وقد طيَّبنا بطيب كان بالقرب منه قبل أن نخرج من عنده وهكذا هي عادة العلماء.
خرج بنا حمد بعد صلاة العصر لزيارة العم أحمد بن رغيش العميري الذي أكرمنا بالفوالة والقهوة ودعانا للعشاء والمبيت.
قلنا له أما العشاء فهو في منزل العم يعقوب الشعيلي، وأما المبيت فلا لأننا عزمنا الرجوع إلى العامرات في مسقط العامرة كلٌ يبيت بمنزله، فقال : تعالوا مرة أخرى ولا تقطعونا>
فودعناه على أمل اللقاء، انتهز خالد الفرصة فصور معه صورة تذكارية وانطلقنا بعدها لمزرعة حمد العميري لنأخذ جولة في المزرعة ونصلي بها المغرب، وقد أعد لنا حمد هناك الشاي والقهوة فصلينا المغرب واحتسينا معه الشاي فقط فقد اكتفينا من كثرة شرب القهوة طوال اليوم.
رجعنا حيث نقطة الوُصول إلى منزل العم يعقوب الوصول لتناول ما لذ وطاب من الطعام في وجبة العشاء، وختمنا العشاء بفناجين القهوة السمراء المعشوقة الحاضرة.
ثم شكرنا الجميع وطلبنا منهم صورة جماعية للذكرى والحمد لله على نعمة الوصل واللقاء، وقد فرّغوا من أوقاتهم للجلوس معنا، شكرًا للأحبة في كل من فَل والحَبي والمعمور على كرم الضيافة وجميل اللقاء.