فـضـيـلـة الفـضـول والشـك..
شـيـخـة الـمـحـروقـيـة
فـضـيـلـة الفـضـول والشـك..
إن فضول الإنسان هو أصل الشكوك والتساؤلات والفرضيات والنظريات التي تدفعه للبحث المعمّق والمُطَوّل، واختراع الأدوات التي تعينه للوصول إلى المعرفة، وهذا الفضول قد يُواجَه بالرفض والاتهام بالخروج عن الملّة والجنون، والحكم بالموت أو النفي؛ خاصة إن كان ينبش في عوالم خفيّة وتتناقض غاياته مع المعتقدات الثقافية؛ فعالم الفيزياء الإيطالي جاليليو جاليلي دافع بشدّة عن نظرية عالم الفلك اليوناني نيكولاس كوبنيكوس بأن الأرض تدور حول الشمس، وأن هناك كواكب أخرى غير الأرض، وهو ما يتعارض مع ما ورد في الكتب المقدّسة بأن الأرض هي مركز الكون، وعلى إثر ذلك اتهمت الكنيسة الكاثوليكية جاليليو بالهرطقة، وحُكم عليه بالسجن المؤبد؛ بيد أن هذه الافتراضات تم إثباتها لاحقًا بوساطة علم الفلك الحديث الذي استلهم العزيمة والإصرار لاكتشاف حقائق الكون من قصة جاليليو المؤسفة.
على الرغم من كل ما قدّمه العلم الحديث من اكتشافات موثقة بالدلائل والصور؛ إلا أن التشكيك والاتهام طاله أيضًا؛ لكن هذه المرّة من قبل أولئك الذين اكتفوا بالدوران في محيطاتهم المغلقة ولم يرتحلوا بخيالاتهم ليفترضوا وجودًا غير وجودهم؛ فالهبوط على القمر ما يزال في نظر العديد قصة مفبركة، وكذلك الثقوب السوداء التي اعتبرها عالم الفيزياء الراحل ستيفن هوكينج الحل لفهم وتحديد تاريخ بداية ونهاية الكون، وبعد نشر وكالة الفضاء ناسا صورًا للكون السحيق والمجرات السماوية سَخِرَ البعض منها معتبرين إيّاها غير حقيقية، وهذا السلوك الإنساني ليس بجديد؛ إذ فسّره الفيلسوف كانْت بأنه نابعٌ من محدودية عقل الإنسان، والحدود تختلف مقاييسها من فردٍ إلى آخر؛ لينعكس هذا الاختلاف في نظرة البشر إلى الواقع والحقيقة؛ فكلٌّ يراهما وفق هواه ومدى تفكيره.
إن العلماء دائمًا في حالة فضول وشك بوجودٍ لا تصل إليه حواسهم؛ لذلك هم دومًا في سعيٍ حثيثٍ لإشباع فضولهم، وإيجاد الإجابات على تساؤلاتهم، بينما يكتفي محدودو العقل بالسخرية والاتهامات التي تستفز العلماء وتدفعهم إلى مزيدٍ من الابتكار والتطوير والاكتشاف حتى يثبتوا أننا ما أوتينا من العلم إلا قليلاً؛ فالوصول إلى القمر الذي أنكره البعض وقلّل من أهميته البعض الآخر كان الإنجاز البشري الأول الذي أثبت قدرة الإنسان على الوصول إلى أبعد من موطئ القدم ومرمى العين، ورحلة أبولو ١١ التي شهدت نزول أول إنسان على سطح القمر؛ كانت محفّزة لابتكار تقنيات أفضل وأكثر ذكاءً لإجراء المزيد من الرحلات إلى ما هو أبعد عنه؛ حيث تشير الإحصائيات الأمريكية إلى ارتفاع عدد الطلاب الدارسين للتخصصات العلمية والتقنية وعلوم الفضاء في الجامعات بعد ذلك الحدث التاريخي، ناهيك عن أن تلك الرحلة كانت مبدأ الاختراعات المتوالية، وإطلاق الأقمار الصناعية التي سهّلت حياة البشر اليوم ونقلتهم إلى مرحلة جديدة مكّنتهم من عبور القارات في كبسة زر، وما نعيشه اليوم ربما يكون تجسيدًا لما قاله نيل آرمسترونغ في ذلك الوقت : بأن “النزول على القمر كان خطوة صغيرة إلا أنه خطوة كبيرة في تاريخ الإنسانية”، وعلى الرغم من كل ما تم تحقيقه يستمر التشكيك وتستمر معه محاولات الإقناع، وربما بفضل هذا الصراع بين العلماء والمشكّكين سيأتي يومٌ علينا وتصبح فيه الرحلات السياحية إلى القمر من البديهيات في حياتنا.
أما الثقوب السوداء فقد كانت الشغل الشاغل للكثير من علماء العصر الحديث؛ أبرزهم عالم الفيزياء الراحل ستيفن هوكينج؛ الذي دمج بين النظرية النسبية لآينشتاين وميكانيكا الكم لفهم هذه الظاهرة الغريبة والمستعصية؛ فقد كان يراها أنها التفسير الأفضل لتحديد تاريخ بداية ونهاية الكون؛ فالثقوب السوداء حسبما رصدتها وكالة ناسا هي حلقات مفرغة في الفضاء تجذب ملايين الأجسام السماوية وتختفي داخلها؛ فلا يتحدد مصيرها إلى أين تذهب وما الذي يحدث لها هناك، وهل كوكبنا الأرض ينجذب إليها تدريجيًا وبطيئًا دون أن نشعر خاصة بعد رصد ثقب أسود يستطيع التهام ملايين الأجسام بحجم الأرض كلَّ ثانية، ويتوقّع ستيفن هوكينج في كتابه “تاريخ موجز للزمان”؛ بأن الكون بعدما تمدد بفضل الانفجار الكبير سيعود للإنكماش في الثقوب السوداء لنرى من خلالها نهايتنا التي لم نصل إليها بعد، وقد اتّسم هوكينج بالشجاعة رغم إعاقته الجسدية ليقدّم للبشرية أنصاف إجابات على تساؤلات وجودية ربما تدفع أحدهم للعمل على إيجاد الإجابات الكاملة، ومع ذلك وجدت هذه الثقوب من يشكك في صحة وجودها، والسؤال هنا : ما الفائدة التي يجنيها العلماء من اختلاق مثل هذه الحقائق؟.
يستمر العمل في كشف أسرار هذا الكون؛ كان آخرها الصور التي نشرتها وكالة ناسا للكون السحيق والمجرّات السماوية الأخرى، وهذه الصور قد تغذّي افتراضات بوجود كواكب أخرى كالأرض، وربما تجيب على تساؤلات طُرِحت كثيرًا حول قوله تعالى : ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً * قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ* قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾؛ الآية 30 – سورة البقرة؛ فكيف عرفت الملائكة أن ابن آدم سيكون فاسدًا قاتلاً ؟! هل سبق وأن كان في الأرض بشرٌ قبل سيدنا آدم عليه السلام ؟! هل هناك كواكب أخرى يعيش فيها بشرٌ مثلنا يقتّلون بعضهم للسيطرة عليها ؟! أهم موجودون حتى الآن أم أفناهم الله تعالى بسبب جورهم وفسادهم ؟! هل ستثبت صور ناسا نظرية “العالم الموازي” المثيرة للجدل والمستلهمة من قوله تعالى : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) الآية 12 – سورة الطلاق ؟، وكذلك قول ابن عباس رضي الله عنه – بصرف النظر عن مدى صحة متنه – : “إن الله خلق سبع أَراضين، في كُل أرضٍ نبيٍّ كنبيّكم، وآدم كآدمكم، ونوحٌ كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى” ؟.
مثل هذه التساؤلات والنظريات هي ما يقود الإنسان لمعرفة ما لا يعرفه؛ فمهما كانت غير مقبولة ومستنكرة وجدلية ولا يدركها العقل المحدود؛ إلا أنها تستحق البحث والسعي لتفنيدها؛ إن اللامعرفة بحد ذاتها دافعٌ قويٌ نحو المعرفة، والشك والفضول برأيي هما أفضل من الحقيقة المطلقة لأنهما يحفزّان البشر لاكتشاف المزيد وابتكار المزيد وفعل المزيد للاندفاع نحو العوالم الخفيّة؛ فإن كانت الحقيقة الكاملة واردة في كتب الله المقدّسة لماذا أمر الله سبحانه بالتأمل في الكون والتدبّر في خلقه ؟، لماذا ترك في كتبه مساحة من الغموض وعدم الوضوح تثير التساؤل وتحيّر العقول ؟، لماذا خلق ما لا تراه الأعين ولا تصل إليه الحواس بسهولة ؟.
إن الفضول يدفع الإنسان للتزوّد بالمعارف، وصنع الأدوات، وتمهيد السُبُل والعمل حتى يصل إليها، ليتحرّك بذلك في دائرة تتغذّى على فلسفاته وتساؤلاته وشكوكه وفرضياته ونظرياته، وتكبر وتتسّع كلّما عَمِل وتعلّم سعيًا في إشباعها، والفضول فضيلة كبرى على البشرية؛ فهي النواة التي تنفجر منها كل الطاقات الإنسانية التي عمّرت وستُعَمِّر هذا الكون أكثر وأكثر، وفي المقابل إن وجود المشكّكين في ما يصل إليه العلم لهو استفزاز صحّيٌّ يدفع للبحث عن المزيد من البراهين والحجج العلميّة للرد على المشكّكين، لتستمر بذلك عجلة المعرفة في الدوران والاتساع، وتهنأ البشرية بالتقدّم والنمو والعمران.
بالفعل الفضول يدفع للمعرفة والابتكار
المقال يستحق بجدارة التمعن فيه
وفقك الله