بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

عـابـرون .. لا أكـثـر ..

شـيـخـة الـمـحـروقـيـة

 

عـابـرون .. لا أكـثـر ..

 

قالها بكل فرح وهو يجلس بجانبي ونحن نشاهد صفوف الجماهير المتلهّفة للحصول على توقيع كتاب بقلم والدته .. قالها بكل فخر وثقة : “نحن جميعًا ناجحون .. لا يوجد في عائلتنا سوى الأكاديميين والأطباء والمهندسين وأصحاب المناصب .. أنا محظوظ لأنني ولدت في عائلة ناجحة .. وأنا ناجحٌ مثلهم؛ فأنا دائمًا أحصد المراكز الأولى في المدرسة !!”.

طريقك مفتوحٌ يا ولدي .. مفتوحٌ مفتوحٌ مفتوح ! لذلك أكتب ردّي ها هنا لعله يصلك بطريقة تخفف من وقع الصدمة عليك :

قبل “النجاح بمفهومه المغيّب عنك يا ولدي دروبه ليست مفروشة بالورد أو سجاد من حرير، النجاح يعني أن تقاوم جميع أسباب الفشل .. أن تنتشل نفسك من حفرة عميقة أوقعك فيها القدر .. أن تنقذ نفسك من الغرق في دوّامات تشدّك نحو القاع .. أن تقاوم الجاذبية البشرية البائسة وتسبح في الفضاء بكل ما أوتيت من قوة حتى لا تسقط سقوطاً حرًا نحو الحضيض .. أن تستنهض في داخلك الروح التي تحاول الحياة اغتيالها بطعناتها القاتلة.

يا ولدي .. لم تعرف يومًا أن يكون الحصول على قطعة خبز هو أكبر أحلامك، أنت لم تكبر لتجد نفسك مشتتًا بين أبوين مطلقين لتعيش أيامًا مع هذا وأيامًا مع الآخر، لم تصبح يتيمًا أو تولد لقيطاً أو مشوّهاً، لم تتعرض للإهمال، لم يكن أحد أفراد عائلتك طيبًا حد السذاجة أو سيئًا حد البشاعة لتصبح أنت المشروع المستقبلي لتصحيح أخطائه، لم تجبرك الأقدار الصعبة للعمل منذ سني حياتك الأولى لتستنزف طفولتك وأنت توفر لقمة العيش، لم تجد مُعيلك أو ولي أمرك أنانيًا يجري خلف هواه وملذاته تاركًا يدك الناعمة تتخضب بخشونة الحياة .. أفلت يديك وتركك وحيدًا تعبر طرقاتها دون هُدى؛ لتقفز بقدميك الصغيرتين الضعيفتين حتى تتجاوز مطبّاتها الكبيرة.

كم من طفل أخذ القدر والديه؛ فعجزت أخلاق الكافلين عن رعايته والاهتمام به، ليذهب إلى المدرسة وهو في صورة سيئة مغايرة للصورة المعتادة للأطفال، بلا ثوب نظيف أو مصروف للطعام، بلا لعبة يتسلّي ويتباهى بها بين الأصدقاء، بلا قصة يحكيها : “قال لي أبي، وفعلت لأجلي أمي”، وما أقسى بعض الأطفال المحظوظين في تعاملهم مع المختلف، يستضعفونه لأنهم الأجمل والأنظف والأفضل والأكثر حظًا، لا يتورعون عن إظهار كل شرورهم فيتنمرون عليه ويحاولون إخراجه من إطار الصورة الجميلة التي تضمهم.

كم من طفل نُزعت الرحمة من قلب والديه أو المسؤولين عنه ليجد كافة أنواع التعذيب والإساءة لأنه “عبءٌ” عليهم، ذنبه الوحيد أن قدم إلى هذه الدنيا ولم يكن له حق الخيار في ذلك، يقاوم تصديق الواقع المخالف للفطرة؛ فكيف له أن يُصدّق أنه غير محبوب، وكيف له أن يقتنع بأنه مذنب ويستحق كل هذه الإساءة والعقوبة، يناضل وهو طفل حتى يعيش مع حقيقة من حقائق الحياة المُرّة أن ليس كل الآباء أمان، وليست كل الأمهات نبعًا للحنان.

كم من طفل حُمّل المسؤولية منذ نعومة أظفاره ليقوم بدور المُعيل والمنقذ للأسرة، ويبذل كل الجهد حتى يوفِّق بين العمل والدراسة ليضمن مستقبله الذي يكتب معه مستقبل عائلته، بينما يقضي الأطفال يومهم في المدرسة وعلى ظهورهم حقائب من أحلام فردية، يحمل ذاك الطفل هموم أسرة بأكملها، وفي حقيبته أحلامٌ وأضغاث أحلام، يرى النور والأمل تارة، ويتملكه الحزن واليأس تارات أخر، يمشي على درب الحياة كالعابر فوق حبل رفيع امتد بين جبلين، محاولاً رغم طفولته أن يسير باتزان ليصل الضفة الأخرى قطعة متكاملة؛ فهناك من يتكيء عليه ويعتمد عليه كل الاعتماد.

يا ولدي .. كم من طفل لم يَذُق حلاوة الحظ الذي يحيط بك من كل جانب؛ فأنت وأنا وكثيرون محظوظون جدًا لأننا ولدنا لآباء مُحبّين، كبرنا ونحن ننعم بالعناية والاهتمام وتوفير العيش الكريم وجميع أسباب الراحة والسعادة والرفاهية حتى لا نقلق حول مستقبلنا، وجدنا في الأرض من يهدينا سبل السلام ويخرجنا من الظلمات إلى النور، قرأنا دليل الحياة في عيون من حولنا واستمعنا إلى قصصهم في العبور إلى بر الأمان، كل هذا الخير وأكثر لم ينعم به أطفال كثر.

تفوُقنا في المدرسة والجامعة يا صغيري لم يكن نجاحًا، بل عبورًا عاديًا جدًا؛ لأن حياتنا كانت جميلة وسهلة، لم نصطدم بجدرانها الصلدة ونحن أطفال لا حولٌ لنا ولا قوة، لم تدفعنا الحياة لنستنهض قوانا العاطفية والعقلية حتى نستوعب وجهها الآخر، لم تفجعنا الأقدار بقراراتها الغامضة لنتساءل طوال الوقت ما الذنب الذي ارتكبناه حتى تكون بهذه القسوة معنا، لم تصفعنا على خدودنا الطرية ونسقط أرضًا ونفقد الوعي حتى نستجمع قوانا لنستعيد وعينا ونقف على أرجلنا مرة أخرى ونستعد لصفعتها الأخرى ولسان حالنا يقول لقد أصبحنا أقوى.

دعني أخبرك عن كلمة في اللغة الإنجليزية تستخدم لوصف الطالب الذي تمكّن من الانتهاء من المقررات الدراسية : “Pass”، وتعني هذه الكلمة حرفياً : “عابر”، أي أن الطالب لم يبذل جهدًا يُذكر حتى يتجاوز هذه المرحلة، ولكن الترجمة العربية المتعارف عليها هي “ناجح”، ولعل ذلك ما عمّق غياب المعنى الحقيقي للنجاح، ورغم أن “Pass” تستخدم قياسًا على الأداء الدراسي، إلا أنني أتمنى اعتماد كلمة “عابر” بديلاً لــ “ناجح” في توصيف الأطفال بالمدارس؛ لعل في ذلك خطوةٌ أولى نحو المقاييس العادلة في وصف الناجحين.

يا ولدي .. لا تحسبنّ البالغ الراشد المتعلم الذي عاش طفولته ببديهياتها شخصًا ناجحًا بمجرد أن حقق أحلامه، ولا تظننّ الشهادة أو المنصب أو الثروة مقياسًا لنجاح البشر؛ المصائب يا صغيري هي من يحدد الناجحين من العابرين؛ فكلّما زاد بخل الحياة وقسوتها كان البقاء على قيدها نجاحًا .. كلّما خالفت المنطق وجن جنونها كان الحفاظ على الوعي نجاحاً .. كلّما تنمّرت على الصغار الضعفاء المخذولين كان صمودهم في وجهها نجاحاً؛ فعلى قدر المعاناة تأتي العزائم، وعلى قدر الضعف والعجز تُحسب العظائم.

لم نذق مرارة المعاناة يا ولدي؛ فدروبنا كانت مفتوحة، وحظوظنا كانت مصنوعة، ما نحن عليه اليوم هو بديهي جدًا، ولا نُعد أكثر من كوننا عابرين في هذه الحياة، لسنا بناجحين .. لا .. لسنا بناجحين .. نحن عابرون .. عابرون .. لا أكثر !”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى