بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

بيـن جـنـاحـي فـراشـة..

شـيـخـة المـحـروقـيـة

 

بيـن جـنـاحـي فـراشـة..

 

إن الموجات اللطيفة التي تولدها رفرفة جناحيّ الفراشة قد تتسبب في عاصفة شديدة القسوة، وفي هذه النظرية – أثر الفراشة – رمزية إلى أن الأخطاء الكبيرة في حياتنا ما هي إلا تراكمات لأفعالٍ صغيرة نكررها بشكل يومي دون وعي؛ فمعظم النار من مستصغر الشرر (أبو الطيب المتنبي).

إن الطريقة التي يقود فيها الإنسان مركبته تعطي دلالات على حال الأمة ومصيرها؛ فالخطأ المتكرر يصبح مع مرور الزمن أزمة كبرى، كأن يقوم الإنسان بالذهاب مباشرة إلى مسار التجاوز (أقصى اليسار) وهو بالكاد قد أخذ مكانًا في الطريق العام، متجاهلاً القوانين والأسباب التي تقتضي التدرج في اتخاذ كل مسار، متجاوزًا حارة التسارع أو حارة الدمج التي تتطلب منه الوصول إلى السرعة والقدرة المناسبة للاندماج مع المركبات الأخرى في الطريق العام، إن الذي يتجاهل هذه القوانين كالذي ينسف قوانين العدالة قاصدًا مكانًا عليًا في طريق الحياة وهو لا يكاد يفقه شيئًا، ولا يتفكّر في نفسه إن كان يستحق الطريق الأسرع حتى يصل إلى وجهته، هذا السلوك واستمراره يزيد من حجم الغرور في قلب من يمارسه، وتنمو في داخله الرغبة لتجاوز كل المراحل دون استحقاق أو جهد يذكر؛ كأن يطالب بترقية أو منصب في عمله دون أن يمتلك المؤهلات لذلك، أو أن يرغب في العيش بمستوى يفوق قدراته المادية والفكرية، ويبيح لنفسه ارتكاب تجاوزات عديدة كالسرقة والاحتيال وإثارة الفوضى لتحقيق غاياته.

الغرور والأنانية يكبران أيضًا في نفس ذاك الذي يتجاوز طابورًا من سيّارات تتنظر إشارة خضراء ليأتي هو من بعيد مستفيدًا من ثغرة ما ويمضي في طريقه قبل الجميع؛ فأنانيته أوهمته بأن وجهات الآخرين أقل أهمية من وجهته، وأنه أحق بالوصول باكرًا، وأن الصبر والانتظار من شيم الفاشلين، وسيبقى يترجم هذه الأنانية بصور متعددة في مختلف جوانب حياته؛ فهو “ومن بعده الطوفان”.

ومن الناس من يجبر الآخرين على منحه ما لا يستحق؛ فرغم وجود مركبات أخرى تسير في طريقها ومسارها الطبيعي، يحاول البعض أن يُدخل جزءًا من مركبته كرسالة غير مباشرة بوجوب السماح له بالدخول كليًّا في الطريق، وهكذا أشخاص يمارسون نفس السلوك بطريقة غير حضارية في واقع الحياة، كأن يدخل على الطبيب بحجة الاستفسار حول مسألة بسيطة رغم وجود مريض آخر، أو يتجاوز صفًا من الناس أمام محاسب في محل تجاري أو آلة البنك لأنه في عجلة من أمره أو أنه سينتهي بسرعة أو أنها امرأة !! هذا السلوك البسيط من شأنه أن يؤخر المجتمع عن ركب الحضارة المبني على أسس النظام والعدالة والقانون.

إن أثر الفراشة لا يقتصر على الحركة وحسب، بل أن السكون له أثره أيضًا، فالبعض يركن مركبته لفترات طويلة على قارعة الطريق أو أمام محلات تجارية أو ملكيات خاصة بأفراد، ومن الناس من يشغل موقفين في آن واحد إما بالوقوف في المنتصف فهو لا إلى هذا ولا إلى ذاك، أو أنه يقف عرضيًا لأن ذلك يناسبه حتى يحصل على مساحة أكبر من الظل، هذا السكون والوجود في المكان غير المناسب نجد انعكاسه في مواقع العمل، كأن يشغل موظفٌ ما منصبًا ليس أهلاً له فيصعب عليه اتخاذ القرار ويقف عاجزًا ساكنًا معطلًا حركة عجلة الأعمال، أو أن يُكلّف أحدهم بمهمتين أو أكثر في آن واحد فلا يستطيع إيفاء المتطلبات العملية على أكمل وجه.

هذا السلوك في ركن السيّارة عشوائيًا هو أحد حبّات النوى التي تنمو منها ثمرة قاتلة تسمى “الفوضى”، فهي نابعة من اللاوعي وانعكاسٌ لنظرة قصيرة المدى ترى ما يتناسب مع اللحظة الآنية ومُراد الشخصية الأنانية التي لا تلقي بالاً للعواقب والأضرار التي قد تُحيق بالآخرين؛ فكم من زحام سببته سيارة وقفت بين موقفين، وكم من حادث مميت سببته مركبة رُكنت على جانب الطريق.

قيادة المركبة هي تجسيد ملموس لعقلية وثقافة الإنسان؛ فالمتهور في قيادة مركبته سيتهور في إدارة بيته ووظيفته وتجارته ومشاريعه وعلاقاته مع الناس، والبطئ جدًا في قيادتها هو ذلك الحذر الخائف جدًا من اتخاذ خطوات جريئة نحو أهدافه وطموحاته، ومن يتخذ مسارات في الطريق العام عشوائيًا لن يدرك يومًا أين موقعه من الإعراب في هذه الحياة، وذاك الذي يتجاهل الصابرين أمام إشارات المرور ما هو إلا انتهازي فاسد لا يكترث لحقوق الناس، ومن يسلك طريقًا جانبيًا للوصول إلى وجهات محظورة لن يتردد في اتخاذ الأساليب الملتوية والاحتيال على الآخرين حتى يحقق مآربه.

أما ذاك الذي يسلك طرقًا مشروعة مختلفة للوصول إلى وجهته كمكان عمله أو بيته – حتى وإن كان من باب المتعة – هو شخصٌ محب للاكتشاف والتجارب المتنوعة وبعيدٌ عن الرتابة والملل، والذي يعرف أين وكيف يركن سيارته فقد عرف قدر نفسه فاحترمها واستحق الاحترام، والإنسان الذي يقود مركبته بهدوء ورصانة ويعرف حقوقه وواجباته ويلتزم بالقوانين المرورية هو ذلك الشخص الذي يعوّل عليه وطنه ليأخذه إلى أعالي القمم؛ فالسلوك الراقي الحضاري في قيادة المركبة هو كنسمة رقيقة تنبعث من جناحيّ فراشة، بتكرارها واتساع مداها تُخلَق حضارة راقية وأمة عظيمة.

تعليق واحد

  1. كم هم كثر في هذا الوقت ومع زيادة الكتابة عن هكذا امر واهميته كلما مر الانسان بموقف ما وباسلوب ممتع ومنطقي كهذا لابد ان رفرفة جناحي الفراشة ستحدث عاصفة ولو من الدرجة التي لا تحدث دمار بل تلفت الانتباه الا ما يجب ان نراه ونقوم بتقويمه في حياتنا قبل قوانينا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى