لو أردت فهم الحاضر فادْرُس الماضي..
محمد بن العبد مسن
لو أردت فهم الحاضر فادْرُس الماضي..
أخي القارئ …
أود في مقالي هذا أن أتحدث عن تلك المدينة الايرانيه الجميلة وهي مدينة(نهاوند) التابعة لمحافظة همذان يعمها الجمال الطبيعي في جميع أكنافها وما زاد من روعتها تلك الآثار القديمة والمعالم الدينية العديدة و لكن مدينة نهاوند ذات طلاوة خاصة لكونها تجمع كل ما في المحافظة من ميزات فذة فريدة من نوعها ، ومن جملة مراكزها الدينية السياحية قرية باسم وادي إبراهيم “دره إبراهيم” والتي تزخر بالمناظر الجميلة وفيها مرقد للسيد علوي جليل.
كما تقع في منطقة جبلية إلى الجنوب من جبال زاغروس أسسها (داريوس الأول) وكانت المدينة عاصمة لإمبراطورية (كسرى الأول) معظم سكانها من الكرد.
عزيزي القارئ…
كلما نرى القلاع والحصون الشاهقة والتاريخية الضاربة في الزمن نتذكر الفتوحات الإسلامية الطاحنة في معركة من المعارك الفاصلة في الفتح الإسلامي لفارس ، والتي وقعت في خلافة عمر بن الخطاب سنة 21 هـ (642 م) وقيل سنة 18 أو 19 هـ.
حيث انتصر فيها المسلمون انتصارًا كبيرًا على الفرس الساسانيين بقيادة الصحابي (النعمان بن مقرن المزني) إلا أنه أستشهد في المعركة يرحمه الله.
وهو أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأميراً على قبيلة مزينة القاطنة بالقرب من المدينة المنورة.
حيث دخل الإسلام بعد أن دعا قومه أيضاً إلى الإسراع لاتّباع الدين الإسلامي كونه لم يسمع عنه إلا العدل والرحمة والاحسان وسارع إلى اعتناق الإسلام هو ومن معه ؛ فتوّجه إلى المدينة المنورة محمّلاً بالهدايا هو ومن آمن معه معلنين إسلامهم ، فعّم الفرح في المدينة المنورة بنبأ إسلام أحد عشر أخاً في الوقت نفسه إلى جانب 400 فارس أيضاً.
يقال إنه عندما انتصر المسلمون في القادسية على الفرس كتب “يزدجرد” إلى أهل الباب والسند وحلوان لكي يهاجم ويضرب المسلمين الضربة الحاسمة فاجتمعوا في نهاوند.
حينها أرسل سعد بن أبي وقاص إلى عمر : (بلغ الفرس خمسين ومائة ألف مقاتل، فإن جاءونا قبل أن نبادرهم الشدة ازدادوا جرأة وقوة، وإن نحن عاجلناهم كان لنا ذلك).
وأرسل عمر إلى سعد محمد بن مسلمة ليخبره أن يستعد الناس لملاقاة الفرس ، فغادر سعد الكوفة إلى المدينة ليخبر عمر بخطورة الموقف شفاهة ، فجمع عمر المسلمين في المدينة ، وخطب فيهم وشرح لهم خطورة الوضع ، واستشارهم ، وأشاروا عليه أن يقيم هو بالمدينة ، وأن يكتب إلى أهل الكوفة فليخرج ثلثاهم لمساعدة الجيش الإسلامي وأهل البصرة بمن عندهم.
ثم قال عمر : أشيروا عليّ برجل أُوَلّيه ذلك الثغر غدًا، فقالوا : أنت أفضل رأيًا وأحسن مقدرة، فقال : أما والله لأُوَلِّيَنَّ أمرهم رجلًا ليكونن أول الأسنة – أي : أول من يقابل الرماح بوجهه – إذا لقيها غدًا، فقيل: من يا أمير المؤمنين ؟ فقال : النعمان بن مقرن المزني، فقالوا : هو لها.
ودخل عمر المسجد ورأى النعمان يصلّي، فلما قضى صلاته بادره عمر : لقد انتدبتك لعمل، فقال : إن يكن جباية للضرائب فلا، وإن يكن جهادًا في سبيل الله فنعم.
وانطلق النعمان عام (21) للهجرة يقود الجيش، وبرفقته بعض الصحابة الكرام.
ويقال إن النعمان بن مقرن رضي الله عنه كبّر قبل البَدْء بخوض القتال ثلاث تكبيرات إعلاناً لبَدْء القتال مع الفرس، فكانت التكبيرة الثالثة بمنزلة إعلان لانتهاء حكم الدولة الساسانية، فدارت معركة حامية الوطيس انتهت بانتصار المسلمين على أعدائهم، واستشهد في هذه المعركة قائد المسلمين، وقتل من الفرس ما يفوق مائة ألف مقاتل، وبعد وقوعهم بالوادي قُتل ثمانون ألف مقاتل، وهرب الفيرزان.
وقيل إنه قبل أن يأخذ قسطاً يسيراً من الراحة انطلق القعقاع بفرسانه وراء الفيرزان وجنوده.
وكان الفيرزان يتحرك بأقصى سرعة ممكنة هو و جنوده ليفلتوا من القعقاع ؛ رغم أن الطريق الذي سلكوه كان طريقاً جبلياً وعراً جداً..
ففوجئ الفيرزان بخروج قطيع طويل من الحمير والبغال يحملون كميات كبيرة من (العسل) يتحركون ببطء شديد .. حتى سدوا على الفيرزان طريق هروبه الوحيد بين الجبال!!.
فكر الفيرزان كيف سيخرج من هذا المأزق ؟!.
فوقع الفيرزان و من معه من جند الفرس في مأزق كبير فالبغال المحملة بالعسل من أمامهم ، و القعقاع و جنوده من خلفهم ..
فاضطر الفيرزان وجنوده أن ينزلوا من على خيولهم حتى يتمكنوا من الفرار بين شعاب الجبال على أرجلهم.
ففعل القعقاع وجنوده الأمر نفسه حتى يتمكنوا من ملاحقة الفرس بين شعاب الجبال.
وبعد مطاردة طويلة استطاع المسلمون أن يصلوا إلى هؤلاء الهاربين ، فقتلوا عددا منهم و استطاع القعقاع أن يصل إلى الفيرزان فأخذ الفيرزان يقاتله بكل ما أوتي من قوة و لكن في النهاية انتصر عليه القعقاع وقتله ..
وبذلك يكون قد هلك (آخر جنرال ) من جنرالات كسرى / يزدجرد الكبار .
وكان المسلمون إذا ذكروا تلك الوقعة يتفكّهون بها ويضحكون قائلين : (إن لله جنوداً من عسل).
ثم تحرك جيش المسلمين بعد انتهاء المعركة نحو حصن (نهاوند) ؛
فلما وصلوا وجدوه خاليا تماما من المقاتلين.
فدخلوها وأخذوا يجمعون الغنائم والذهب التي تركت فيه ؛ فقد كان ليزدجرد ثروة ضخمة في نهاوند …
وقسم المسلمون الغنائم فكان نصيب الفارس الواحد منهم يقدر بـ 6000 درهم.
ثم جهزوا (الخمس) لإرساله إلى أمير المؤمنين عمر في المدينة ، وقد كان ينتظر بقلق بالغ أن تأتيه أخبار نهاوند فلم يكن يهنأ بنوم ، وكان يخرج كل صباح إلى الصحراء في أطراف المدينة ينظر إلى المشرق على أمل أن يأتيه من يبشره بالنصر حتى وصل السائب بن الأقرع من (نهاوند) ومعه خمس الغنائم ، ورسالة البشارة بالنصر من حذيفة بن اليمان فلما رآه أمير المؤمنين أسرع إليه قائلاً : (ما وراءك ؟).
فقال السائب وهو يبتسم :
(خيراً يا أمير المؤمنين .. فتح الله عليك وأعظم الفتح).
فابتسم عمر ثم سأله :
(وماذا فعل النعمان بن مقرن ؟).
فطأطأ السائب رأسه .. وانطفأت ابتسامته ، وقال : (لقي ربه شهيداً…).
فأخذ عمر يبكي ، ويبكي ، ويقول :
(إنا لله و إنا إليه راجعون).
ثم ذكر له السائب أسماء بعض الشهداء قائلاً :
(واستشهد من المسلمين فلان .. و فلان .. و فلان…، وغيرهم الكثير .. ولكن لا نعرف أسماءهم).
فقال عمر .. وهو لا يزال يبكي :
(وماذا يضرهم ألّا يعرفهم عمر .. بن أم عمر ؟ يكفيهم أن الله يعرفهم ويعرف وجوههم وأنسابهم).
ثم صعد عمر على منبر رسول الله فخطب في الناس يبشرهم بـ (فتح الفتوح) الذي كسر الفرس.
ونعى لهم الصحابي الجليل النعمان بن مقرن رضي الله عنه.
ثم أرسل أمير المؤمنين عمر رسالة إلى حذيفة بن اليمان يكلفه فيها أن يكون واليا على مدينة (نهاوند).
كما أمر بسرعة الانسياح في بلاد فارس قبل أن تتجمع لهم القوات الفارسية من جديد.
وبالفعل تحركت الجيوش الإسلامية في كل مكان في بلاد فارس؛ ففتح حذيفة بن اليمان ومعه القعقاع مدينة (همذان) بالصلح مقابل الجزية وذلك لأن أهلها خافوا على أنفسهم من الوقوف في وجه المسلمين !!.
كما أمر عمر أبا موسى الأشعري (والي البصرة) وعبدالله بن عتبان (والي الكوفة) أن يفتحا (مدينة أصبهان) فحاصرها المسلمون حتى استسلم أهلها وصالحوا على الجزية ثم دخل أهلها في الإسلام بعد أن رأوا سماحة المسلمين وعدلهم وأخلاقهم الكريمة.
بعدها تتابعت الفتوحات وكانت معظم تلك المدن والأقاليم تفتح بالصلح مقابل الجزية بعد مقاومة ضعيفة.
ففتحت مدن (جرجان) و(طبرستان) و(قومس) و(أذربيجان) وغيرها
حتى سيطر المسلمون على كل تلك المدن في أقل من سنة.
أخي القارئ العزيز ..
إن صرح الإسلام قام على تضحيات ثقال قام بها رجالٌ عملوا بالحق والصبر ، ووفقهم الله بنصره ، ولم يخلق الله تعالى لنا الحياة عبثًا بل خلقها لأجل عبادته وطاعته وإعمار الأرض.