المحاماة ومعاونة القضاء في تحقيق العدالة .. الجـزء (2)..
الدكتور/ سعيد بن عبدالله المعشري
مستـشار قانـونـي
المحاماة ومعاونة القضاء في تحقيق العدالة .. الجـزء (2)..
إن تطور مهنة المحامـــاة لم يكن على مراحل متصلة عبر التاريخ، وانما كان نتيجة لتحولات حضارية وسياسية واجتماعية على مر القرون والعصور منــذ ظهــــورها كمهنــة إلى يومنــا هذا، وعلى الرغم أنها خضعت إلى العديد من التغييرات إلا أنها احتفظت بدورها الخاص المتمثل في تقديم المشورة والدفاع عن الأشخاص في قضاياهم ودعاواهم في مختلف الأزمنة، وأيضاً أن فرض الالتزامات الأخلاقية على المهنة أضفى عليها ميزة لجوء العامة إلى المحامين لتمثيلهم في مطالبهم بالحقوق والدفاع عنها، وبهذا سنلقى نظرة مقتضبة عن مراحل تطور المهنة في بعض الحُقب التاريخية.
– مهنة المحاماة في العصر الاغريقي والبيزنطي :
كان المتهمون في اليونان القديمة أي في العصر الإغريقي يجبرون بالدفاع عن أنفسهم وبمفردهم وهذا في فترة عدم وجود مهنة المحاماة، وذلك تطبيقاً لقانون صولون (591 ق.ب) (فأن تسمية القانون بهذا الاسم هو نسبة إلى صولون حاكم أثينا خلال الفترة 572-594 ق.م الذي وضع الشرائع والأحكام الواردة في هذا القانون)، ومع ذلك، سُمح لهم بكتابة مذكراتهم القانونية بواسطة معدي السجلات والكتاب، ولا ينفي على أن فكرة الدفاع عن الآخرين –التي تقوم عليها مهنة المحاماة- ولدت في اليونان وروما القديمتين، وإذ يعتبر الكاتب ماركوس توليوس سيسرو (Marcus Tullius Cicero) هو من طور هذه الفكرة باعتباره كان كاتباً وخطيباً شهيراً في روما القديمة.
وكذلك أن الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول (Justinian I) هو أول من أنشأ “نقابة للمحامين”، حيث كان المحامي في عصره يعتبر فارساً من فرسان الإمبراطورية للدور الذي يلعبه المشابه للفارس العسكري لكونه يقاتل للدفاع عن الفقراء وعن اليسوع بحسب ما كان متعارفاً عليه لديهم، ويتم اختيار المحامين في البداية من رجال الدين بحكم درايتهم بالقوانين وبالأخص القانون الروماني المستمد من تعاليم الكنيسة والدين المسيحي، ولئن كان الناس العاديون بعدها مارسوا أعمال هذه المهنة، لكنه مع الحفاظ على تجسيد البعد الديني عند ممارستهم لها، وظل تأثير الكنيسة على مسار وتغّير أوضاع المهنة تدريجيا حتى إبان العصور الوسطى.
– مهنة المحاماة في العصر الروماني :
إن الأصل التاريخي لكلمة محام (lawyer) يعـــود إلى أصـــل الكلمــة اللاتينيــة التي استخـــدمــت في عصــر رومــا القديمـــة vocatus ad/aduocatus)) والتي تعني “الشخص المستدعى أو الذي تم استدعاؤه”، وقد كان القانون الروماني يخول أي شخص حر بالترافع أمام المحاكم عن غيره؛ أما أن يدافع عنهم أثناء محاكمتهم، أو يقدم لهم المشورة بصفته مستشارًا قانونيًا لهم أو محامياً عنهم.
ولذلك كانت تعتبر هذه المهنة في العصر الروماني وظيفة اجتماعية وتطوعية في ذات الوقت، حيث تجد من يدافع عن أفراد عائلته أو اصدقائه بحكم مكانتهم الاجتماعية أو يتولى تطوعا بالدفاع عن الطرف الضعيف في أي قضية أو نزاع، وفي حقيقة الأمر كانت تمارس ايضاً ابتغاء الحصول على خدمات أو مزايا ولو كان يستمد الشخص من هذه المهنة مكانة أو سمعة سيئة، ومن هذه الخدمات والمزايا التي يسعى للحصول عليها منها فتح المجال له لتقلد المناصب العليا في الإدارة الرومانية، وكذلك كان يعتبر دور هؤلاء في الحياة العامة مهمًا في ظل عصر الجمهورية الرومانية، لأنهم غالبًا ما يتدخلون لدعم المدن أو المناطق التي تدخل في صراع أو نزاع مع روما.
ويرى أنه على الرغم ما كان للمهنة من احترافية في روما إلا أنه لم تكن مهامها واضحة ومحددة مثل مهام المحامي في العصر الحديث، حيث يكون للمحامي في ظل العصر الجمهوري والامبراطوري حق ممارسة المهنة والجمع بينها بالتناوب مع وظائف أخرى أو بصفته مسؤولاً رفيعا في الدولة، بحيث يمكنه تقديم المشورة لأحد أفراد أسرته في المحاكمة أو مساعدتهم فيها وحتى في الحكم الصادر في القضية أو النزاع الذي يكونا اطرافاً فيه، ولئن كان هذا الأمر لا يخلو من الجوانب الأخلاقية بتدخل مسؤول رفيع بالدولة في المحاكمة، إلا أنه تم تبريره وتفسيره في ذلك الوقت لمكانة هؤلاء الرفيعة في المجتمع الروماني ليس فقط كونهم كعلماء أنما كأعضاء مؤثرين في المصالح الاقتصادية والسياسية للدولة.
وقد كان المحامي لا يتمتع بذات السلطة التي يتمتع بها القاضي والأخير هو المعني بتطبيق القانون وضمان احترام الإجراءات القانونية من قبل أطراف النزاع، وتكون هيئة المحلفين -التي يُعين أعضاءها من مجلس الشيوخ-لها السلطة في تحديد العقوبة، إلا أن مع اكتساب الإمبراطور المزيد من القوة والسيطرة تحولت له سلطة المعاقبة وتقييد الصلاحيات، وبذلك أصبح المحامين مقيدي الصلاحية بالتحدث والمناقشة في القضايا الجنائية أو العامة.
وبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، تولت الكنيسة ضمان حد أدنى من العدالة على جميع الأراضي التي تخلت عنها روما وفقاً للقواعد القضائية للكنيسة المستمدة من الأخلاق المسيحية (الكتاب المقدس والوصايا العشرة) ومن القانون الروماني والمدونة الفقهية المدنية لجستنيان الأول ( Coprus Juris Civilis of Justinian 1st ) المعروف بالإمبراطور المسيحي ومؤسس نقابة المحامين.
– مهنة المحاماة بأوروبا في العصور الوسطى :
استمر البعد الديني في ممارسة مهنة المحاماة بأروبا في العصور الوسطى، ولقد كان البابا يعتبر شفيع المحامين، وأيضا تعتبر مؤسسات سانت لويس بفرنسا الأولى التي أرست القواعد الأخلاقية للمحامين المستمدة من الدين، حيث كان المحامين يقسمون اليمين على الأناجيل المقدسة، بحسب صيغة القسم المحددة لهم في عام 1344م وظل الأمر حتى عام 1810م، وكان يحق للمحامي أن ينال لقب سيد (ميتر) ” Maître” مثله ورجال الدين الذين درسوا اللاهوت أو القانون الكنسي.
وأما في المسائل القانونية، التي كان يجب على الشخص المدعى عليه أن يدافع عن نفسه، أو يتم إقامة العدل عليه باسم اللورد المحلي أو تمارس عليه المحنة (Ordalium)، وتعتبر المحنة شكلاً من أشكال المحاكمة ذات الطبيعة الدينية وجدت في العصور القديمة وانتهى تطبيقها مع بداية عصر النهضة والثورة في أروبا، وتتمثل في إخضاع المشتبه به لاختبار مؤلم وقد يكون قاتلا في بعض الأحيان، وتؤدي النتيجة التي يحددها الله -في معتقداتهم- إلى استنتاج ذنب المشتبه فيه أو براءته، وإذا كان المتهم بريئًا فإن الله سيساعده على تجاوز المحنة، وعلى الرغم أن المحنة كانت تصطبغ بالطابع الديني إلا أنها لم تكن تنفذ من قبل السلطات الدينية وفي نهاية الأمر أدانتها الكنيسة. وبهذا فأن للحديث بقية في الجزء التالي من هذا المقال.
___________________
المراجع :
– د. عكاشة عبدالعال، تاريخ النظم القانونية والاجتماعية، منشورات الحلبي الحقوقية، 2002م.
– موريس بيشوب، تاريخ أوروبا فى العصور الوسطى، دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، 2016م.
– Clément VEDEL (Évolution de la profession de l’avocat de Rome à nos jours.), on web: (malafosse-vedel).
– LES AVOCATS À TRAVERS L’HISTOIRE DE L’ANTIQUITÉ À NOS JOURS, on web: (Avocate Hamon Degionni).
– Moyen Age : le jugement de Dieu, on web: lhistoire.fr