بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

شكراً أيتها الخسارة..

عـبـدالله الفـارسـي

 

شكراً أيتها الخسارة..

 

أنا كالإسفنجة .. أمتص الحانات ولا أسكر.. (مظفر النواب).

أصبت بانتكاسة كبيرة قبل فترة  قصيرة شبيهة تماما بتلك الانتكاسة حين قررت دخول الجامعة.

وشبيهة بالانتكاسة نفسها حين قررت دخول كلية التربية.

وشبيهة بالانتكاسة ذاتها حين قررت الالتحاق بسلك التدريس التعيس.

وشبيهة بالانتكاسة نفسها حين قررت مواصلة الماجستير.

وشبيهة بالانتكاسة نفسها حين قررت ممارسة القراءة وتسلق الوعي واقتراف الكتابة!!!.

كلها انتكاسات تتلوها انتكاسات .. وظلمات تتراكم فوق ظلمات.

 ليس شرطا أن تكون الانتكاسات شخصية أو فردية؛ فانتكاسات المجتمع وسقطات الوطن وتخبطاته هي أيضا انتكاسات مؤلمة موجعة؛ إنها تحطم البشر وتدفنهم في الحضيض، وتجعل منهم ديداناً كبيرة تقتات من الحصى والتراب!!.

******

اتصل بي صديق عزيز لمواساتي في سقطتي العنيفة تلك.

كان متألما جدا .. ساخطاً للغاية.

فكلمته بصوت الواثق .. ونبرة الثابت .. ونكهة السعيد .. ونغمة الراضي.

خففت سعادتي من حزنه  ..ولطفت ضحكاتي وفكاهتي من سخطه.

فقال لي  :توقعت أن أجدك منهارا .. متشرذما .. محبطا .. مهزوما ممزقا!!.

قلت له :

لا أقول لك بأنني سعيد كما أنني لست بحزين.

ولكنه _ جمال _ السقوط حين يكون قاسيا درجة النزف والتهشم!!.

لقد اعتدنا السقوط يا صديقي حتى اصبح جمع أشلاءنا وتجبير كسورنا هواية دائمة ولعبة جميلة بهيجة  . 

******

بعد تلك _ المكالمة _ أرسلت إليه هذه الرسالة:

صديقي العزيز :

حياتنا ليست سعادة دائمة.

ودنيانا ليست أغان صادحة.

الحياة مليئة بالحفر والأحجار.

والدنيا معبأة بالنكسات والانتكاسات والحفر.

يجب أن نتقبل كل مساوئ الحياة برضى ونرحب بقبحها وعفنها  بامتنان.

******

يجب أن نتصالح مع قبح الواقع وقسوته.

يجب أن نهضم سواد الواقع وكارثيته.

يجب أن نصافح مشاكل الحياة بثبات واقتدار ونعانق مصائبها بيقين ورضى.

يجب أن نتعلم الامتنان لكل ما تمنحه لنا الحياة حتى لو كانت فاجعة سوداء أو كارثة نكراء أو حادثة شنعاء.

وتأكد يا صديقي بأن خلف كل عاصفة هناك هدوء قادم .. وبعد كل صخب وضجيج هناك سكون ونجوم وفرح قائم.

تأكد يا صديقي بأن وراء كل سقوط وفشل هناك نهضة وبهجة ونجاح.

طوال حياتنا نسقط ونتعثر.

لا أذكر بأنني حققت حلما، لا أتذكر بأنني قبضت على  أمل،  

لا أتذكر بأن أصابعي لامست أمنية.

الجروح يا صديقي تملأ جسدي .. والآلام تستوطن قلبي وتسكن روحي.

ولكنني مازلت أقاوم .. وأصارع وأجدف أحيانا مع التيار .. وأحيانا كثيرة ضده.

صديقي العزيز :

السقوط اكسير البقاء .. ورحيق المقاومة .. وهرمون الركض والوقوف والاستمرار.

إنني مازلت واقفا بدون عكازات .. وهذا يغرقني بالغرور ويملأني بالكبرياء.

الرضى بما يصيبك نعمة كبيرة يا صديقي.

والإمتنان بما يقدره الله لك فضيلة عظيمة.

واعلم بأن ما أصابك ما كان ليخطئك.

هذه الحياة رحلة مجهولة .. لا نعرف ماذا ينتظرنا غدا ..

نجهل ما سيحصل لنا  في الأيام  القادمة والساعات النائمة .

لا يمكن أن نرى ماذا يخبئ لنا القدر خلف ذاك _ الشارع_

لا نعرف اي نوع من الذئاب  تتربص لنا وراء ذلك الزقاق  .

******

كم تمنينا واقعا أفضل وحاضرا اجمل ومستقبلا  أرحم وألطف 

ولكن ضاعت الأحلام  فخالطها  الوهن  وغسلتها الاوهام ..!

صديقي العزيز :

لا يمكن أن نعرف ماذا ينتظرنا خلف تلك الصخرة .. ووراء تلك الشجرة.

لكننا لابد أن نمضي .. لابد أن نواصل طريقنا.

التوقف يعني الإنتهاء  والجمود والتلاشي.

يجب أن نمسح دموعنا ونواصل.

يجب أن نلصق اللصقات على جراحنا ونمضي.

لا يمكن أن نستسلم.

من المشين أن نتوقف.

من المعيب أن ننهزم .. ونندثر .. ونتكسر ونتفتت.

يجب أن نقدم الإمتنان لكل مصيبة كتبها الله علينا .. يجب أن نتلو آيات اليقين والرضى عند كل ابتلاء ابتلانا الله به.

وتأكد يا صديقي بأن المحنة دفقة من دفقات الحياة.

وستتبعها حقنة من حقن النشاط .. والهمة .. والصعود والفرح.

إملأ روحك بالرضا لكل ما قدره الله  في طريقك .. وستشعر بأنك منتصر .. غير مهزوم.

ولا يمكن أن _ تهزم _ في قادم الأيام.

إن الإنسان مخلوق جبار .. زوده الله بكل مضادات الصدمات .. وموانع الانكسارات .. ليواصل حياته كما كتبها الله له.

أنظر إلى شعوب العالم من حولك.

أنظر إلى مصائبهم.

تأمل فجائعهم.

ركز على معاناتهم ومصائبهم.

وراقب عزيمتهم .. وصبرهم .. ونهوضهم وانتصاراتهم.

الإنتصار على الانكسار يمنحنا دافعا قويا وعجيبا للإستمرار  بروح مشتعلة بالأمل .. معبأة بالرجاء والأماني.

ليس هناك إنتصارات دائمة  يا صديقي.

كما أنه لا توجد هزائم متواصلة.

عبئ روحك دائما بالأمل وبالشفاء مهما كانت قوة المرض ووطأته وقسوته.

فيستحيل أن _ تشفى _ من أي مرض إذا كانت روحك نخره.

منهزمة .. مطحونة.

يجب أن نصنع من كل هذا الكم الهائل من أحجار السقوط ورمال الخسارات سُلّما نتسلق به إلى تلك النافذة الصغيرة المسماة “الأمل”.

يجب أن _ نستنشق _ القوة .. ونتنفس النهوض.

إبحث عن القوة في داخلك .. وستجد لديك رصيدا لا ينفذ من قوة التحمل .. وطاقة الصبر .. ورغبة الإنتصار وشهية التسلق والإرتفاع.

يجب أن نمنع قدر الإمكان الإنهيار من التدفق  إلى أقدامنا والسيلان في شراييننا.

الرصاصة التي لا تقتلني .. تحييني .. تمنحني والغناء.

هناك مصباح إحتياطي في داخلك .. يضيء لك كلما انطفأت مصابيحك الأمامية..

هذا المصباح لا يمكن أن يضيء دون أن تكون قادرا على تشغيله وإشعاله.

وليس من السهولة إشعاله وتفعيله.

أنت ربان سفينتك .. أنت وحدك من يمسك على دفتها.

أنت وحدك من يستطيع توجيهها .. وإنقاذها من عواصف النفس .. وأمواج الانكسارات العاتية.

فأحسن القيادة.

وقوي قلبك.

لا تطفئ المواقد.

لا تقتل المواعيد.

لا تمحُ رائحة الأزهار.

ولا تصنع توابيت الأحلام.

فقط كن متأهباً لكل عاصفة قد _تضربك _ في أية لحظة.

كن كالإسفنجة تمتص الحانات ولا تسكر.

وقل دائما .. الحمد لله.

وشكرا شكرا أيتها _ الخسارة_ .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى