بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

المحاماة ومعاونة القضاء في تحقيق العدالة .. الجـزء (1)..

الدكتور/ سعـيد بن عـبدالله المعشري

مسـتـشـار قـانـونـي

 

المحاماة ومعاونة القضاء في تحقيق العدالة .. الجـزء (1)..

 

لم يكن ظهور المحاماة كمهنة عائداً إلى عصر النهضة الحديثة، وإنما إلى عصور غابرة في التاريخ نظراً لاحتياجات المجتمعات البشرية لها على مر العصور لتكون معاونة لأنظمتها القضائية في تحقيق العدالة والاستقرار، ولئن وجدت بمسميات مختلفة كمهنة كان يمتهنها في الدول والحضارات المنصرمة؛ الفقهاء والفلاسفة والمفكرين لذلك سميت بمهنة العظماء في مجتمعاتهم، لما تتطلبه من قدرات عالية من الفكر والمهارات والمواصفات ليكون من يشتغل بها قادراً على تمحيص وتقديم الادلة والبراهين ودحض الادعاء ورده للوصول إلى الحقيقة في النزاع القائم مساعداً بذلك القاضي في اصدار حكمه الصحيح فيما يعرض عليه من دعاوى وخصومات وقضايا.

وليس هناك مصدراً يُحدد التاريخ الفعلي لظهور المحاماة كمهنة، ولكن المسلم به أن ظهورها يعود إلى عهود قديمة، وتذكر بعض المصادر أن ظهورها كنظام كان بدايته في العصر الاغريقي في عهد جستنيان الذي انشئ أول نقابة للمحامين ووكلاء عن الصناع والتجار، وأيضاً كان لها ظهور بأنظمة مماثلة للمحاماة والوكلاء في بعض الحضارات القديمة كالمصرية والرومانية والبابلية، وأما في العصور الإسلامية فكان ظهورها في البدء بنظام الوكالة الذي عرف في الشريعة الإسلامية على أنه تفويض أو انابة شخص للقيام بعمل ومنها مطالبته بالحقوق وغيره، إلى جانب وجد من كان يمتهن صفات المحامي ومهامه بمفهوم دور المحامي في العصر الحديث من الفقهاء والفلاسفة والمجتهدين في إرساء مبادئ التقاضي وفق الشريعة الإسلامية الغراء يُدافع بها عن المتخاصمين لتكون اسانيد تعين القاضي في قضائه، وأما ظهورها كنظام  كان خلال فترة الدولة العثمانية التي أقامت نظاماً للوكلاء لتقديم الدعاوى وذلك في عام 1292ه الموافق لعام 1876م، وتبعه اصدار نظام مماثل له بمصر عُرف بنظام “مهنة الوكلاء” وذلك في عام 1884م، حيث حُدد بموجبه الشروط التي يجب ان يتمتع بها المترافعون أو الوكلاء، وكذلك يشترط أن تكون هناك إجازة من الخصوم لتوكيل غيرهم للدفاع عنهم أمام القضاء.

الأمر ذاته لا يختلف عن مراحل التطور التي مرت بها هذه المهنة في السلطنة، حيث وجدت كنظام اجتماعي قائم على العرف بما يعرف بنظام الوكيل الذي يتوكل عن احد الأطراف المتنازعة لتمثيله أمام القضاء الذي كان يقتصر على المحاكم الشرعية إلى جانب هيئة حسم المنازعات التجارية التي تأسست عام 1981م وبعدها تحولت إلى المحكمة التجارية في عام 1997م، ولا يشترط في الوكيل أن يحمل مؤهلات علمية قدر أن يتمتع بصفات شخصية معينة يراها فيه موكلة لحمل مطالبه أمام القضاء، بحكم تمتعه بقدرات شخصية على الاقناع وبيان مطالبه واثباتها امام القضاء، واستمر هذا الوضع إلى أن صدر قانون للمحاماة بموجب المرسوم السلطاني رقم (96/108) لينظم المهنة بمفهومها الحديث، وقبل ذلك أي بعد عام 1970م وجدت أنظمة داخلية تتعلق بقيد المحامين وتحديد إجراءات ترافعهم أمام الهيئات القضائية.

ولا ينكر ما قدمته هذه المهنة العظيمة من مساهمات جليلة في تطوير كافة الجوانب الحياتية للإنسان الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وستجد رجالها في الحضارات القديمة والحديثة على مر التاريخ، لهم الدور البارز والمساهمات الفقهية والفكرية الرائدة في تطوير الأنظمة القائمة في مجتمعاتهم بمختلف توجهاتها الفكرية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لما لاجتهاداتهم الفقهية والفكرية في الفلسفة الاجتماعية والقانونية والاقتصادية المتعلقة بفكر الأنظمة التي ينشئونا بها تجعل منهم صناع للمبادئ والأسس التي يبني عليها المشرعين القوانين والأنظمة لتكون مقاربة وتتماشى مع واقع وظروف المجتمع بحكم أن المحامين هم الأقرب بملامسة الواقع التي تعيشه مجتمعاتهم، ولذلك يصف المؤرخ الأمريكي جيمس ويلارد هيرست (James Willard Hurst) في مؤلفه “محامون في الجمعية الأمريكية 1750-1966″ بأن المحامي اذا كان رجلاً يكسب لقمة عيشه وهو كذلك كرجل محترف بوظيفته يساهم بإنشاء وصيانة النظام الاجتماعي”.

فإن مع بزوغ التطورات والمتغيرات العالمية الحديثة في شتى المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي صاحبت ظهور التكنولوجيا والأنظمة والأنماط الاجتماعية والاقتصادية المعقدة استتبعه صدور قوانين وأنظمة تحكم هذه التطورات التي قد لا يستوعبها الرجل العادي في فهمها والتعامل معها لتشعب تفاصيلها الدقيقة، لذلك كان من الأهمية بمكان وجود شخص متخصص في التعامل معها ليكون معاونا ومساعدا للدهماء في فهم هذه النصوص وتطبيقها وليكون وسيلة هامة في معاونة القضاء في تحقيق العدالة، ومن أجل ذلك وجدت أنظمة حديثة تعنى بمهنة المحاماة يحدد من خلالها شروط من يمتهنها والأعمال المنوطة لها وضوابط ممارستها لأجل تحقيق الغاية من وجود المهنة لتكون معاونة للقضاء في عمله لتحقيق العدالة مواكبة للمتغيرات والتطورات.

وكذلك نتيجة لظهور أنظمة اجتماعية واقتصادية وسياسية متعددة في العالم، كان له الأثر في اختلاف أنظمة المحاماة في بعض الدول، ولا يخفى أن الأنظمة جلها تتشابه من حيث تصنيف وظيفة المحامي بوصفه محام (Lawyer) واعطائه الاستقلالية التامة وتحديد أعماله كالنيابة بتمثيل الأطراف المتنازعة أمام الهيئات القضائية أو هيئات التحقيق وابداء الراي القانوني وصياغة ومراجعة العقود، وقد تفرق تسمية المحامي في الولايات المتحدة باختلاف إطلاق الصفة بالإنجليزية أن تكون بمصطلح (ِAdvocate) التي لا يختلف في ترجمتها الى العربية بأنها تترجم إلى كلمة “محام” حيث أن مصطلح (Lawyer) قلما يستخدم في النظام القانوني والقضائي الامريكي، وكذلك أن النظام المعمول به في بريطانيا وبعض مستعمراتها أو الخاضعة للتاج الملكي البريطاني مختلف عن بقية الأنظمة في العالم لكونه يفرق بين وظيفتين في المحاماة، حيث أن المحامي له أن ينال أحد الصفتين؛ صفة السوليستر (Solicitor) أو البارستر (Barrister)، فالسوليستر (Solicitor) تكون مهامه تقديم المشورة القانونية المتخصصة لعملائه في مختلف المجالات القانونية وكتابة صحف الدعاوى والقضايا حيث يزاول عمله في مكتبه، وأما البارستر (Barrister) مهامه تمثيل الموكلين أو العملاء والدفاع عنهم أمام المحكمة. وبهذا فأن للحديث بقية في الجزء التالي من هذا المقال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى