صِـنَاْعَـةُ الطَّـوَاْغِـيـت..
صِـنَاْعَـةُ الطَّـوَاْغِـيـت..
لا زالت البشريةُ تعتمرُ في تفاصيلها مصانعَ عدةً، منها ما يُنتِج قادةً عِظاما، يرفعون من الإنسانية، ويُعَظِّمون من شأنها، حيث حلّوا حلّتْ الحضارةُ، وانتشرت العدالةُ، وازدهرت معيشة الإنسان، وتفتقت الحياةُ عن مكامن الإبداع المختلفة، ومنها مصانعُ تُنتِجُ الطواغيتَ، الذين يعملون في الحضارة على النقيض، فتنحسرُ وتنكسرُ، وتَعُمُّ البلوى، وترجعُ المدنيةُ القَهْقَرى، وينتشر الظلمُ، وتُغَلَّبُ المصالحُ الشخصيةُ والفئويةُ على المصالح العامة.
إن صناعةَ الطاغية أو الطاغوتِ تتم عادةً بوجود بيئةٍ قابلة، وحاضنةٍ اجتماعيةٍ غيرِ ناقدة، والتي هي الأخرى تُعَدُّ نتيجةً لتخلخل إحدى السلطات الثلاث أو جميعها؛ التشريعيةِ والتنفيذية والقضائية، فمتى كان التشريعُ غيرَ عادل، وغيرَ شامل، ويكرسُ للفئوية والعنصرية، كانتْ بيئةُ الطواغيت، ومتى كان التنفيذُ – مع إجادةِ التشريعِ- مُخْتَلّاً غيرَ أمين، كانت بيئةُ الطواغيت، ومتى كان القضاءُ – مع جودة التشريع والتنفيذ – ظالماً غيرَ عادل كانت بيئةُ الطواغيت، وَيَمْنَعُ كلَّ ذلك ويدفعه تفعيلُ هذه السلطات بصورتها المستقلة، والتأكدُ من كفاءتها جميعِها ونِدِّيتها، التفعيلُ الذي عبَّر اللهُ سبحانه عنه بالمدافعة، وعَدَّهُ سبحانه من أسباب محاربةِ الفساد في الأرض الرئيسةِ : (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) البقرة ٢٥١.
لقد قامت نهضةُ عُمانَ الحديثةُ على إرثٍ ثقافيٍّ جليل، جعلَ قيادتَها أكثرَ إشراقا ووعيا باحتياجات الدولة المدنية بما يتماشى وتلكمُ الثقافةَ العريقةَ، وكانت دعوةُ جلالة السلطان هيثم الأخيرةُ في خطابه لشعبه هي الدعوةَ الواعيةَ لباني النهضة -طيب الله ثراه- منذ بدأها في السبعين من القرن الماضي، وهذا الوعيُ القياديُّ الممتدُّ بأهميةِ الدولة المدنية ومؤسساتها المختلفة، لا سيما المجالسَ الثلاثة، ودعوةُ العمانيين للمشاركة جميعا لخدمةِ عُمان ودعمِ سلطانها يُشَكِّلُ مانعا وحِرْزًا حقيقيا من وقوعِ عُمانَ في حَيِّزِ إنتاجِ الطواغيت، ويحفظُها من التَّردّي فيه.
إلا أنه ومع ذلكم الحرزِ والسورِ العظيم، لا بُدَّ من الأخذ في الاعتبار إمكانيةَ إنتاج الطواغيتِ على مستوى المؤسساتِ وقياداتها، لا سيَّما إن تجمعت له أسباب ذلك، من وجود سلطة، وتَحَصُّلِ مصلحة، وبطانة (أو ملأ) فاسد متملِّق، وأمِنَ العقوبةَ بأمن عدم وصول تجاوزاته للقيادة العليا، وهو ما يجبُ على الجهات الرقابية والتشريعية والقضائية للدولة مراقبتُه والحذرُ منه، وما يجبُ على مؤسساتِ المجتمع المدني وعلى الكُتَّاب والمثقفين، وعلى الأفراد عموما التكاتفُ مع هذه السلطات وتعزيزُ هذا السور حفظا للدولة من الطواغيت.
إنَّ المؤسسةَ التي تصنع الطاغيةَ عادةً ما تدخل في نظام الشَّلَلِيَّةِ والفصلِ العنصري وثقافةِ “بِنْ و بَنَاوِينْ” داخليا بالنسبة لموظفيها، أما خارجيا فتظهر أعراضها في غياب الموضوعية وتضارب المصالح، وتراجع مؤشر التقدم والنجاح للمؤسسة، فيطغى عليها الارتجالُ والشخصنةُ والقوائمُ السوداءُ والصفراء، كما من أعراضها تقزيمُ المؤسسة حتى لا تكادُ تكونُ مقابلَ رئيسها، ولا تستطيع العملَ بدونه، مما يخلق فئةً من المتزلفين والانتهازيين، والزبانية (الأوفياء)، وأولاد “الريموت”، لا ينطقون إلا بما يُعَزِّزُ الرئيس، ولا يكتبون إلا ما يسره، ولا يُسَبِّحُ قلمُهم إلا بحمده، هو وليُّ نعمتهم وأربابهم، لا يميزون بين شهادته وقيادته، ولا بين ظلمه وعدالته، إذ هم غارقون في بحره الطامي! يُسَلِّطُهم على من يشاء، ويلعب بهم كيفما يشاء!.
إنّ المؤسسةَ الطاغوتيةَ خطرٌ داهمٌ يجب على العمانيّين الوقوفُ مع جلالة السلطان في نهضته المتجددة على منعها بادئَ الأمر، وعلى تعرية ما كان منها تالياً من أجل عُمان، من داخل المؤسسة ومن خارجها، بشهادةٍ عادلة، وحائطِ صدٍّ وطني كريم، كما يجبُ تلبيةُ دعوةِ جلالته، والثقةُ به، أنه لن يكونَ لإنسانٍ مقامٌ فوقَ مقام عُمان، ولا قُربى فوق قُربى عُمان، ولا كَرامةٌ فوق كرامة عُمان، ولا سيرةٌ سابقةٌ أو لاحقةٌ تسبق سيرةَ عُمان، وأنّ من يراهن على حقْبةِ ما قبلَ تولي جلالته للحكم معرفةً وزمالةً وصحبةً، وتسوّلُ له نفسه بأن جلالته سيتساهل معه، ويغض الطرف عنه، وهو قد أهمل أمانتَه ووظيفتَه وعَهْدَ جلالتِه وتنصِيبَه له، وأخلَّ بمؤسسته، وباتت هي مزرعةً خاصةً به، ولم تَعُدْ مؤسسةً عامة للدولة، ودلّت الأدلةُ على ذلك كلِه، إنّ من يراهنُ على هذا ويريد الولوجَ من بابه فقد خسر الرهان، وتتلقاه – بالثابت عليه – القضبان، وستنبذه ولو بعد حينٍ عُمان.
إن من أكبرِ موانعِ تَكَوُّنِ الطواغيتِ في مؤسسات الدولة اليوم – بما أنّ من الأسباب الرئيسة لذلك يكمنُ في السُّلطة وأَمنِ أولاءِ العقوبةَ ووصولَ صوتِ المخلصينَ للسلطان – هو إضافةُ نافذةٍ مباشرة للقيادة العليا لصاحب الجلالة من خلال مكتب تنسيق جلالته، تكون مفتوحةً دون تعقيدٍ أو إجراءاتٍ تعجيزيةٍ بينه وبين الشعب بمثقفيه ومستفيديه، لرفعِ أي دلائلَ على رئاسة وحدات الدولة من داخل هذه الوحدات ومن خارجها، وأَيِّ تجاوزات قد تكون منها، حيث يمكنُ تقنينُ هذه النافذةِ – لضمان التركيز كمًّا وكيْفاً – لتكونَ فقطُّ للمُعَيَّنِين في الوحدة بمراسيمَ من لدن جلالته (الوزير والوكيل)، ولما يؤثر على استراتيجية الوحدة وعملها، من كفاءة وسلوك، أو خيانة وظلم للدولة والمؤسسات والأفراد، بعيدا عن القرارات الإدارية التي تختص بالنظر فيها مؤسسات قائمة كالقضاء الإداري، كما يمكنُ أيضا تحميلُ المُبَلِّغِينَ مسؤوليةَ بلاغاتِهم إن ثبتَ فيها الكيديةُ وعدمُ المصداقية والشخصنةُ، ولم تكنْ عُمانُ في عينِ المُتقَدِّم بالبلاغ.
إن تشكيلَ مثلِ هذه النافذةِ الأمينةِ والمفتوحةِ والمباشرة، وإيجادَ فريقِ عملٍ مخلصٍ، عينُهُ على عُمانَ وعلى سلطانِها وشعبِها يشكل طوقَ أمانٍ حقيقيّاً، ويعملُ على تبديدِ بذرةِ الطواغيتِ في مهدها، كما أنها ستُقَوِّي من الوجود الشخصي والمباشر لجلالة السلطان مع الشعب دون طبقاتٍ فاصلة، وتُضاعِفُ طُمأنينةَ الشعب وإبداعَه بوجود قائده قريبا منه، وسيتمكن الاستثمار ويتقوى الاقتصاد، وستنتقل رؤوس الأموال إلى السلطنة سِراعا، وسيعزز وجودُ النافذة أيضا من عمل المؤسسة أو الوحدة العامة ذاتها باهتمام رؤساء الوحدات – خوفاً وطمعاً – وتفانيهم لإقامة العدل والاهتمام بإسعاد الموظف في أوّل السلم الوظيفي في المؤسسة (المراسل) كما اهتمامهم بإسعاد أعلاه وآخره (المدراء والوكلاء والمستشارين)، وذلك بوجود الرقابة الشفافة والمتابعة القريبة من لدن السلطانِ نفسِه، كما يمكن أن تكونَ ذاتُ النافذة جزءا من المنظومة التي يشرف عليها جلالته مباشرة من خلال مكتبه، والتي تعمل على متابعة الأداء السنوي للوحدات وإنجازها مقابل الخطة المرسومة، والتي تصب في تحقيق رؤية عُمان 2040.
حفظ الله عُمانَ وجلالةَ السلطان والشعبَ الكريم في السنة الميلادية الجديدة هذه وجعلنا مخلصينَ للوطن وقائدِه وشعبه، لا رهانَ لنا مُفْلِحٌ إلا هُمْ، ولا قبلةَ لنا ولا لأقلامنا ولا لقلوبنا إلا حبُهم، لا تشترينا شهادةُ بروفيسوراة ولا دكتوراة ولا فوقها ولا تحتها، ما لم يكن لهذه الشهاداتِ معنىً في قيادةٍ عادلةٍ في سبيل الوطن، وإنجاز كريم، ولا علاقةَ أقربَ لنا من علاقتهم، إلا علاقتَنا بربنا سبحانه، الذي أنعم علينا بعُمانَ وقائدِها وشعبها، فله الحمد والثناء العظيم.