خـط الـفـقـر !!..
خـط الـفـقـر !!..
كتبت مقالاً منذ سنتين عن “عتبة الفقر” أو ما يسمى بخط الفقر ووجه لي البعض الكثير من الانتقادات مدّعين بأننا لم نصل إلى خط الفقر .. وإننا بعيدين كل البعد عن ما يسمى “عتبة الفقر”..
وأصارحكم بأنني أعشق مثل هذه التعقيبات والانتقادات وأرحب بها لسببين :
الأول : لأنني من خلالها أتيقن بأن مقالاتي تقرأ بتمعن وتركيز .. وهذا يخلق مصدر بهجة لي..
السبب الثاني : أن هناك مفاهيم قد يفهمها البعض بشكل غير صحيح أو مغلوط ..
وهنا أشعر بسعادة أكبر حين أصحح بعض هذه المفاهيم المغلوطة..
سأعرض المفهوم بطريقة سهلة وواضحة ولن أستخدم الإحصاء والمصطلحات المعقّدة حتى لا يتشوه المقال ويفقد رحيقه ، فتُصاب قدماه بالعَرَج ، ويغشى عينيه الغمش والحَوَل..
فمثلا مفهوم “خط الفقر” والذي يطلق عليه بالإنجليزيPoverty Line ؛ هذا مصطلح عالمي لكنه مصطلح نسبي وغير ثابت ..
فلكل دولة خط فقرها الخاص بها..
فخط الفقر في بنجلاديش وسيريلانكا والهند والصومال وأريتريا .. يختلف عن خط الفقر في الجزائر وليبيا والسعودية والكويت ولبنان..
ولأن مصطلح (خط الفقر) يعتمد على الوضع الاقتصادي لكل دولة .. ويتم قياسه من خلال دراسات استثنائية تعتمد على الإحصاء الدقيق والاستقصاء المعمق وهذا النوع من الدراسات للأسف غير متحقق معنا ومهمل تماما..
وبما أن لكل دولة وضع اقتصادي معين .. إذن كذلك لها (خط فقر) معين..
فمثلا هناك فقراء في الكويت والإمارات وقطر .. وهناك خط فقر فيها .. ولكنه يختلف عن خط الفقر الذي معنا!!..
فقراء دول أمريكا اللاتينية يختلفون عن فقراء دول شرق آسيا..
كذلك فقراء شرق آسيا يختلفون عن فقراء وسط افريقيا..
“خط فقر” تايلند يختلف عن “خط فقر” نيبال أو أفغانستان..
كذلك خط فقر البرازيل يختلف عن خط فقر الكاميرون والسنغال وغانا .. وهكذا..
فأي خط فقر في كل دولة يكون مرتبط بمقدار الثروات التي تملكها مقارنة بنسبة عدد سكانها .. حيث تحسب النسبة من خلال متوسط دخل الفرد مقارنة بتوفير ضروريات حياته الأساسية..
بمعنى .. تقسيم الثروات وطريقة إنفاقها هو العامل الفيصل في تحديد (خط الفقر) في كل دولة..
الفقير في عُمان ليس كالفقير في اليمن .. أو كالفقير في جيبوتي أو إثيوبيا أو كالفقير في موزمبيق..
الفقير في عُمان قد يملك سيارةً .. ويملك بيتاً .. وقد يكون لديه عمل .. لكنه يعاني من الفقر..
فالفقر هو عدم القدرة على تحمل نفقات الحياة..
أو العجز عن تغطيه تكاليف المعيشة .. والشعور بالحاجة والعوز بشكل دائم..
*****
في بلد مصنف ضمن الدول النفطية المحترمة كما لا تخلو ارضه من الذهب والالماس .. المغنسيوم .. واليوريا .. والغاز الطبيعي …الخ من النعم العظيمة والخيرات الوفيرة..
ثروات باطنية ومائية هائلة بالإضافة إلى بيئة طبيعية تعتبر كنز استثماري لا يقدر بثمن..
في حين يعيش فيه نسبة ليست قليلة من مواطنيه حياة صعبة شاقة ومضنية..
لا يتمكنون من الحصول على مستوى معيشة جيد لأن غالبيتهم يتقاضون رواتب هزيلة بالكاد تسد الرمق وتسكت الجوع .. ناهيك عن الألاف الذين لا يملكون مصدر رزق نهائياً..
وقبل نهاية الشهر بعشرة أيام او أكثر تكون في ثلاجة المواطن حبتين طماطم وحبة خيار وجزرة واحدة .. وربع دجاجة مجمدة منتهية الصلاحية..
وطبعا لا يتمكن من شراء السمك او اللحم إلا مرة واحدة في الشهر وربما مرة كل شهرين أو ثلاثة..
ومحل البقالة يطالبه بمبلغ سابق..
ومحل غسيل الملابس يطالبه بمستحقات قديمة..
وخياط ملابس النساء يطالبه بفاتورة ملابس البنات للعيد الماضي والتي لم تدفع وهو على أعتاب العيد الحالي..
يسوق سيارته .. وعينيه مرتكزة على مؤشر الوقود .. وقلبه يرتجف رعباً من إضاءة علامة نفاذ البنزين!!..
وغالبا يضطر ان يوقف سيارته يومين او ثلاث لأنه لا يملك مبلغ لتعبئة خزان سيارته..
أما إذا تعطلت السيارة .. فلا اعرف كيف أصف حالته النفسية والعصبية..
وفي موسم الأعياد والبهجات وبدل أن تهطل عليه الأفراح والضحكات تهطل عليه الكآبة والسخط واللعنات..
ماذا نسمّي هذا ؟؟..
هذا هو العيش على “عتبة خط الفقر” في دولة تصنف على أنها ثرية إلى حد ما .. ويعيش فيها عدد ليس بقليل من أثرى أثرياء العالم..
أعتقد أن نسبة من يعيشون تلك الظروف حاليا تعتبر نسبة مرتفعة وترتفع باضطراد .. لأننا للأسف نتعمد تجاهل عدم عمل بحوث ودراسات وإحصائيات دقيقة ونزيهة لكشف هذه الحقائق الخطيرة..
لدينا جامعات ومعاهد بالعشرات لكنها جامعات معطلة من الإبداع والعمل والإنتاج فهي لا تقوم بأي دراسات إجتماعية أو اقتصادية تتعلق بمستوى خط الفقر ومعدل ارتفاعه السنوي وهجومه الشرس على شرائح كثيرة في المجتمع..
إننا نخاف من الحقائق وترعبنا الإحصائيات الحقيقية وتزعجنا الانتقادات والتي قد تصدر من دول مجاورة أو من المنظمات الإنسانية والهيئات الدولية والحقوقية..
لكن هناك حقيقة لابد من أن ندركها ونبلعها ونهضمها وهي أنه كلما اتضحت معالم (خط الفقر) وارتفع منسوبة في أي دولة ظهر على سطحها فقاعات كبيرة وهائلة .. تلك الفقاعات ستنفجر في يوم ما وفي لحظة ما مولدة جرائم خطيرة كالقتل والاغتصاب والعنف والسرقة والرشاوى والخيانة والغش ومختلف انواع البلطجة وأشكال غريبة من الجرائم الشنيعة وهذه التي أطلق عليها أحد علماء الاجتماع المعاصرين مصطلح (فقاعات التدمير)..
هذه الفقاعات المدمرة الكريهة هي نتيجة طبيعية لارتفاع معدل الفقر وتجاهله وغض الطرف عنه وعدم الاكتراث به ومحاولة مقاومته ومكافحته بخطط اقتصادية واجتماعية ناجحة وفاعلة..
*****
أخبرني أحد المتطوعين بإحدى الجمعيات الخيرية بأنهم ذات نهار توجهوا لزيارة أحد الأسر المعسرة لتقديم بعض المساعدة لهم وحين دخلوا بيته وجدوا بأن الأسرة كلها في وقت الغداء تجلس على حصيرة مهترئة وتجتمع على مائدة مكونة من خبز قديم يغمسونه في شاي اسود بدون سكر !!..
وأنا أؤكد بأن هناك المئات وربما الآلاف من الأسر التي تغمس خبزاً حافاً في شاي أسود بدون سكر !!..
وكما وصلني بأن حالياً هناك ضغط شديد وغير طبيعي من المعوزين والفقراء على الجمعيات الخيرية والهيئات التطوعية طلباً للمساعدات يقابلها شح شديد في كرم الأيادي البيضاء التي يفترض منها دعم هذه الجمعيات حتى تقوم بدورها على أكمل وجه وتعرقل عملية الصعود إلى مستوى خط الفقر..
وعلى ذمة المقابلة التي أجرتها إذاعة هلا إف إم قبل أسابيع مع أحد مسؤولي وزارة التنمية والذي أكد (أن رواتب الضمان الإجتماعي لم ترتفع ريالاً واحداً منذ العام 2011) !!..
والمثير للدهشة والعجب بأنه لا أحد يكترث بهذه الفئة الفقيرة المطحونة من الناس لا مجلس يتابع أحوالهم ويدرس أوضاعهم ، ولا هيئة تتكفل بمساعدتهم ، ولا جهة تتحدث باسمهم..
*****
وهناك فئة أخرى على وشك أن تنضم إلى فئة الفقراء وهم المتقاعدين القدامى والذين توقفت رواتبهم وتجمدت بشكل نهائي بينما كل ضروريات الحياة من حولهم تتغير وترتفع أسعارها..
فهؤلاء أيضا بحاجة إلى من يلتفت إليهم ويرأف بحالهم ويدرس أوضاعهم..
بالإضافة إلى الفئة الأكبر وهي فئة الشباب أصحاب راتب 325 ريال فهؤلاء يمكن تصنيفهم في ظل الظروف الحالية بأنهم فقراء فهذا الراتب بالكاد يوفر لهم قوت يومهم..
هذه الفئة تحتاج إلى دراسة ومتابعة حالتهم الاقتصادية بشكل عاجل لرفع مستواهم المعيشي وإبعادهم عن مستوى خط الفقر..
*****
فأرجو وأتمنى الإنتباه وأخذ الحيطة والحذر من (خط فقرنا) الذي بدأ يظهر بسرعة ، ويأخذ منحنىً تصاعدياً بصورة مفزعة و غير منطقية..