هــوان شــو !!..

الكاتـب/ عـبـدالله الفـارسـي
هــوان شــو !!..
(لقد سبق أن نشرت هذه القصة في تطبيق الواتساب اللعين وبطلب وإلحاح من بعض القراء انشرها اليوم في صحيفة أصداء)..
المكان : سيدني / استراليا.
الزمان : يناير / العام 2000.
*****
هوان شو ليس هاتفا صينيا ذكيا ، وليس برنامجا جوجليا جديدا .. كما أنه حتما ليس بطلا آسيويا شهيرا .
هوان شو هو فتا يافع جمعتني به الأقدار ذات مساء منذ سنوات بعيدة .. فتبادلنا الصدق والضحكات .. وتقاسمنا الثقة والبسمات.
*****
حين ألقيت بحقيبتي في منزل العجوز” إنجلي” تلك المرأة الاسترالية الحديدية الخارقة..
لم أتوقع وصول رفيق لي يشاركني السكن معها ..
نعم .. فحين أخبرتني بأن شابا كوريا سيصل الليلة ليشاركني السكن في الغرفة الأخرى الفارغة .. ابتهجت كثيرا .. وقلت لنفسي أخيراً سأرى وجها آخر غير وجه هذه العجوز البغيضة..
كما أخبرتكم ..
كانت السيدة إنجلي تدخل غرفة نومها في تمام الساعة التاسعة ..
ولو قامت القيامة أو ضرب نيزك منتصف القارة الاسترالية فلن تلتفت او تكترث لهذا الحدث الجلل .. فوجودها في فراشها في التاسعة تماما هو أهم ما في الكون بالنسبة لها .. وليحترق الكون بأكمله بعد ان تنام …!
دخلت السيدة إنجلي غرفتها بعد أن أصدرت لي أمرا صارما..
قالت لي : (سيصل رفيقك الكوري في العاشرة تماما.. افتح له الباب وارشده إلى غرفته ..) وصفقت باب غرفتها في وجهي .. وكأن شيئا لم يكن ..
كم هي شرسة جلفة هذه العجوز …!!
انتظرت رفيق سكني الجديد بفارغ الصبر ..
قرع الجرس في العاشرة تماما كما قالت لي عجوزتي ..
ذهبت لأفتح الباب .. فإذا بشاب طويل كأنه عمود نور ابيض .. يضع نظارة خفيفة بيضاء على أرنبة أنفه .. ويبتسم كطفل صغير قادم من الروضة .
بادلته الابتسام .. وادخلته الى الدار .. وحملت عنه حقيبته ..
ورحبت به أيما ترحيب ..
فقام يشكرني طوال النصف ساعة التي جلسناها معا .. مكررا كلمة thank you أكثر من ثلاثين مرة …
قلت له لا داعي للشكر يا “هوان شو “.. أهلا بك في قصر السيدة انجلي ..
كان اسمه “هوان شو “
“هوان شو” شاب كوري في الثانية والعشرين من العمر .. طالب في الهندسة بجامعة سئوول .. جاء الى أستراليا لتقوية لغته الإنجليزية .. فهو في السنة الجامعية الأخيرة وأراد تسمين لغته الإنجليزي وتقويتها كما قال لي .
هذا الشاب اللطيف الرقيق ربطتني به علاقة قوية .. فمنذ التقينا وهو ملتصق بي لا يريد أن يفارقني .. رغم السنوات العشر التي كانت تفرق بيننا في السن ..
كان يطلق علي “الأستاذ” بعدما عرف بأنني أعمل في مهنة التدريس .
كان يحدثني عن كوريا وجمالها وجمال فتياتها وجمال الحياة فيها ..
حدثني عن نظام الدراسة فيها .. وفرص العمل التي تبحث عنك بنفسها .. حدثني عن جيرانهم الرائعين .. وحبهم لبعضهم البعض،.. حدثني عن الأخلاق البوذية التي تربو عليها .. وتأثيرها في تماسك المجتمع الكوري .
وأنا لم أجد شيئا أخبره عنه .. واتشدق به وافتخر به !!!
جلسنا في حديقة المنزل ذات مساء جميل .. صنعت كوبين من شاي الكرك العماني الهندي الهندوسي اللذيذ ..
شرب “هوان شو ” الشاي وكأنه يشرب نبيذا .. فقال لي ما هذا الشاي اللذيذ يا أستاذي .. لم اذق شايا من قبل بهذه اللذة ..
ثم ألقى على قلبي جملة لم انسى جمالها وعظمتها حتى اللحظة .. قال )) : هذا الشاي لن أنساه ما حييت)).
أخبرته حكاية هذا الشاي وتاريخ وصوله إلينا وغزوه لأمعاءنا وسيطرته على مجتمعنا !!
*****
كنا نخرج أنا وهوان .. نتسوق معا .. ونركب قطار المدينة الجميل معا .. ونتسكع معا في شوارع مدينة سيدني الجميلة الصاخبة ..
كان نحيل جدا كقلم رصاص بطول 170سم .. وانا عريض مكتنز بطول يوازي طوله ..
ذات مساء مظلم كنا نتسكع في إحدى الأزقة .. فقفزت قطة سائبة فجأة من أمامنا فالتصق “هوان شو” في صدري من الهلع واختفى في جسدي لدقائق معدودة ..
*****
كان يحدثني عن حبيبته .. وكنت أحدثه عن زوجتي و أطفالي الذين احترق شوقا إليهم .
كان يحدثني عن مدينته ذات النهر المنساب والمنظر الخلاب .. وكنت أصف له شواطئ مدينتي القذرة .. وأكوام القمامة المكدسة فيها .
كان يصف لي جمال الربيع والزهور والطيور في مدينته ..
وكنت اصف له لهيب الصيف وشكل الذباب .. وحجم البعوض الذي يتناسل و يتكاثر دون رادع أو زاجر في مدينتي ..!!
*****
ذات صباح ركبنا قطارا لا نعرف وجهتنا ..
حجزنا تذكرة إلى آخر نقطة يصل إليها القطار ثم عدنا .
فسألني : كيف وضع سكة الحديد في وطنكم ؟
فضحكت وقلت له : ليس لدينا شيء اسمه سكة حديد يا “هوان”
فبحلق عينيه مندهشا مصعوقا ..
فقال : أيعقل بأن هناك بلد ليس فيها سكة حديد حتى اليوم .!!
فقلت له : يا “هوان” نحن شعوب متخلفة جدا .. نحتاج إلى 100 عام حتى نرى قطارا يتحرك في أرضنا ..
نحن مازلنا نركب البغال والحمير .. ونضع آمالنا وأحلامنا في صناديق الشاحنات الخلفية مع الغنم والحطب .. والشعير …!
فصمت “هوان” خجلا وحياء .. ولم ينبس ببنت شفة .. حتى وصلنا مسكننا .
*****
اخبرتكم في مقالات سابقة بأنني سافرت الى أستراليا دون أن ادقق حساباتي المالية وأتأكد من حجم محفظتي وانني فتحت الأطلس المدرسي ووقع اختياري على تلك القارة البعيدة .. لم أدرس ظروف معيشتها ولم اتنبه إلى تكاليفها ولم أسأل نفسي : هل سأتمكن من الصمود في وجه غلاء المعيشة والدراسة فيها ؟؟
.. لقد كان سفري مفاجئا مباغتا و مغامرة حقيقية غير محسوبة العواقب .
لذلك اكتشفت بأنني في ورطة بعد الاسبوع الأول من وصولي وأن المبلغ الذي بحوزتي لن يصمد بي أكثر من فصل دراسي واحد ..
وعلى ضوئه قررت العودة إلى الوطن .. والبحث عن أيادي بيضاء تساعدني في تغطية تكاليف الدراسة ..
*****
أخبرت” هوان” بأنني سأضطر للنكوص والعودة الوطن .. فتجمد في مكانه .. وكأن صاعقة ضربت رأسه .. وصمت .. وبعد لحظات سمعته يبكي ..
ادهشني هذا المنظر العجيب..
فقلت له : لم البكاء يا هوان ..؟؟
فقفز وحضنني احتضانا دافئا لم يسبق لي أن حظيت به من قبل ابدا سوى في صدر أمي ..
حضنني ” هوان” وبكى ..
لم يسبق لي أن حضنني أحد بهذا الصدق وبهذا الدفء سوى أمي التي رحلت منذ سنوات ..
تألم “هوان شو” الشاب الكوري الصغير كثيرا لقرار عودتي .. ولكنني وعدته بالعودة سريعا
فور حصولي على المال ..
*****
وصلت الى وطني .. قابلت مسؤولا كبيرا في وزارة التعليم العالي .. شرحت له المأزق الذي وقعت فيه .. وحاجتي إلى منحة دراسية او نصف منحة أو مساعدة مالية عاجلة من الوزارة …
فغضب مني وكاد أن يبصق في وجهي وكأنني أطالبه بجزء من ميراث والده ..
ذهبت لمقابلة ثلاثة من كبار التجار الحيتان في مدينتي .. قابلتهم واحدا واحد .. وتجرعت الإهانات حتى وصلت إلى أوكارهم الفارهة ..
كلهم كشروا عن انيابهم في وجهي .. وكادو يغرسون أسنانهم في بطني …!
تواصلت هاتفيا مع ” هوان شو” :
“هوان الجميل العزيز : للأسف لن أتمكن من العودة إلى أستراليا .. فلم أحصل على المساعدة المادية ..”
فسمعت حشرجة قلبه الصغير .. وصوت بكائه من بعيد عبر الأسلاك وعبر الأثير .
*****
بعد أيام…
فاجأني “هوان” باتصال هاتفي .. قال لي : إنه أخبر عمه وهو رجل ميسور الحال وتاجر معروف .. وشرح له مشكلتي وحاجتي الماسة للمال .. فوافق العم مباشرة على دفع نفقات الدراسة كلها …!!
تخيلوا معي هذه الصورة الغرائبية التراجيدية.
وقارنوا معي بين تلك القلوب العظيمة .. وهذه القلوب المتحجرة الميتة ..!
في وطني يصدونني ويصفقون ابوابهم في وجهي ..
ورجل كوري بوذي الديانة لا يعرفني ولم يراني .. يوافق على أن يدفع لي رسوم ثلاثة فصول دراسية كاملة .. !!
كم هي عجيبة هذه القلوب .. وكم هي سخيفة هذه الحياة ..
*****
رفضت العرض من ” صديقي هوان وعمه” .. احتراما لنفسي وخجلا من ذاتي وشكرا و تقديرا وثناء لهم على نبلهم و شهامتهم بعد أن تيقنت بأن النبل ليس عربيا بالضرورة وان الشهامة متوافرة في الجنس الأصفر أيضا.
في العام 2013 زارني “هوان شو” .. استقبلته في مطار السيب القديم ..
حين رآني .. حضنني حضنة قوية عنيفة دافئة .. وبكى في صدري .. ظل لدقائق يبكي كأنني أباه الذى لم يره منذ سنوات ..
أخذ الناس يتجمعون حولنا و ينظرون إلينا .. ويتأملون هذا المنظر العجيب ..
فقلت له : (توقف عن البكاء يا “هوان” .. إننا في مكان لا يقدس الدموع .. ولا يحترم الأهات ولا يعترف باللوعات والشجون) ..
*****
أناس عشنا معهم سنوات .. خدمناهم بكل وفاء وإخلاص .. أكلنا معهم .. ضحكنا .. وشربنا .. ومرحنا .. ومنحناهم قلوبنا وأجمل ساعات أعمارنا و اوقاتنا …
وحين ابتعدنا عنهم مسافة كيلو مترات قليلة بسبب ظروف العمل والتزامات الحياة نسونا ومسحونا من قلوبهم تماما كما يمسحون الغبار من على زجاجات سيارتهم التعيسة ..
وهذا الشاب الكوري البوذي عاش معي إحدى و عشرين يوما فقط .. وشرب من يدي كوبا من الشاي اللذيذ … ولم ينسى ذلك الشاي طوال 20 عاما ..
اي قلب هذا الذي يحمله ” هوان شو” الكوري ..
وأية قلوب تلك التي تسكن معنا .. وتعيش بيننا..!!!
سبحان الله الذي خلق قلوبا من نور وضياء ..
وخلق قلوبا من فحم .. ورماد ..!













مرحبًا ، أنا سعيد جدًا الآن لأنني حصلت اليوم على مبلغ قرضي البالغ 100000 دولار من هذه الشركة الجيدة بعد أن جربت شركات أخرى عدة مرات ولكن دون جدوى هنا رأيت إعلان Joan Patrick للقرض كوماني وقررت تجربته واتبعت كل شيء هناك التعليمات وهنا أنا سعيد اليوم ، يمكنك أيضًا الاتصال بهم إذا كنت بحاجة إلى قرض سريع ، فاتصل بهم الآن عبر هذا البريد الإلكتروني: (joanpatrickfinancefirm@gmail.com) أو whatsapp: +918270554759
شكرا