طريق الحرير وتأثير موقع سلطنة عُمان في امتداده..
الكاتـب/ حـمـد النـاصـري
طريق الحرير وتأثير موقع سلطنة عمان في امتداده..
قرأت مقالاً للكاتبة والإعلامية الصينية فيحاء وانغ في صحيفة أصْداء العُمانية الإلكترونية بتاريخ 6 سبتمبر2021 ، وقد تَحدثت عَن الطُرق البَحرية التي تَسْلكها القوافل والسُفن البَحرية مُنطلقة مِن مُدن صِينيّة وعائدة إليها في أزمان قديمة ، كمدينة تشوانتشو وكانَ لكُل ميناء صِلات وثيقة وروابط تجارية وحتى اجْتماعية مع قُرابة مائَة مَرفأ آخر على طول طريق الحرير البَحري، ومِن بَينها مدراس في الهند، وسيراف في إيران، ومسقط في عُمان، وزنجبار في أفريقيا.
وتَحتوي مدينة تشوانتشو الصينية القديمة على عِدّة مَواقع أثرية ترتبط تاريخياً بطريق الحرير البَحري كشواهد على ذلك الماضي العَريق.
ومِن خلال حُطام السُفن التي تمّ العُثور عليها في خليج تشوانتشو وبَحر جنوب الصين على ما تميّز به ذلك الميناء مِن ازْدهار وحيويّة، في تلكَ الحُقبة الذهبية مِثْل حُطام إحدى السُفن البحرية ذات الهيكل الخشبي التي استُخرجت مِن “هوزو هاربور” (في خليج تشوانتشو). ويَبْدو أنّ تلكَ السفينة التجارية العابِرَة لِلمُحيطات ذات الصّواري الثلاثة (نسبة إلى حجمها الكبير) قد صُنعت في تشوانتشو في القرن الثالث عشر، وكانَت وَقْت جُنوحها عائدةً مِن جنوب شرق آسيا محمّلةً بالتوابل والعقاقير والبضائع الأخرى. ولمْ تكن تشوانتشو فقط أحد أبْرَز مراكز التجارة والتبادل على طول طُرق الحرير البَحري، بلْ كانَت أيضاً مركزاً رائداً في صِناعة السُفن وتطوير تكنولوجيات الملاحة في ظل حُكم سُلالة سونغ. (انتهى حديث الكاتبة فيحاء وانغ).
لقد ساهَم مَوقع عُمان الاسْتراتيجي المُطل والمُهَيْمِن على السَواحل الشرقية لشبه الجزيرة العربية وبَحر العرب المُتداخل مع بَحر عُمان الكبير الذي هو بوابّة العالم العربي إلى المُحيط الهندي في جَعْلِها مِحْوَر بَحري واسْتراتيجي ذو أهميّة كُبرى. ومَثلاً كانَت سَفينة السَنْبُوق العُمانية الصِّناعة تُعَد مِن أقْدَم السُفن العُمانية وأكبرها حجمًا، والتي كانَت تُصنع في مدينة صُور وهيَ أيْضاً كانَت مِن ذوات الثلاث صَواري ، وكما هو مَعروف أنّ العُمانيين لهُم خِبْرَة في الإبْحار ويِمْتلكون مَهارات عالية في اسْتخدام الطُرق البَحرية مُنذ الالفية الثالثة قبل الميلاد … وذلك وفْق ما تمّ اكْتشافه مِن أدِلّة لمرور وتوقّف وانْطلاق آلاف السُفن في ظُفار في حُقب زمنيّة بَعِيدة وإلى يَومنا هذا .
وخلال عُهود الفراعنة في مِصْر كانَت هناك السُفن العُمانية تَنْطَلق مِن بَحر العَرب إلى مِصْر وتعود إلى ظُفار وصُولاً إلى بَحر عُمان الكبير، مُحَمّلة بالبَضائع ثُم يُتم انْتقالها مِن عُمان إلى الهند وشرق آسيا، أو تَعود مُحَمّلة باللُبان والبُخور المُسْتعمل آنذاك في صِناعات عِطْرية مِنها ما يُسْتخدم في تَحنيط المُومياوات الفرعونية وأغراض دينية أخرى ، ووفْقاً للأسْفار القديمة ، فإنّ صَمْغ شَجر المُر والذَهَب الذي يَحمله الرجال الحُكماء كانَ مِن مَدينة ظُفار العُمانية .
وكانت عُمان قديماً مَضْرب الأمْثال كمحطّة لالتقاء الحضارات المختلفة مِن خلال دورها الاسْتراتيجي في التَبادلات التجارية، واسْتخدمت جميع تلك الرحلات البَحرية طريق الحرير البحري وبذلك تكون عُمان مَركز رئيسي مِن مراكز طريق الحرير البَحري ، إنْ لمْ تَكُن شريكة في صُنْعِه.؛ حيث أنّ الكُتب القديمة جميعها تَتحدّث عَن عُمان ومَكانتها التجارية والثقافية للعالم القديم ، ومِمّا ذكَره الرحالة الإدريسي في القرن السادس الهجري / القرن الثاني عشر الميلادي ، أنّ مَجْموعة مِن السُفن العُمانية كانَت تُسَمّى بأسْطول قَيْس، وكانَ ذلك الأسْطول مَرهوب الجانب شديد المَنْعَة ، وكانَ أهْل الهند يَخشونه ويَتجنّبون مُواجهته وكانَ للملك قَيْس خمسينَ مِن تلكَ السُفن ، وهيَ مَصْنوعة مِن كُتلة خشبيّة واحدة ، وتَبدو ضَخمة جداً (وعَرّف اسْمها بـ الهُوري) ولا يزال ذلكَ النوع مُسْتخدم في عُمان حتى اليوم .
وكما ذكرتُ في بَحث آخر ، أنه لا يُسْتَبعد أنْ يكون الملك المُهاب الذي ذُكر في القرآن (وكانَ وراءهم ملكٌ يأخُذ كُل سَفينة غَصْبا) أنْ يكون ملك عُماني.
وكما هو مَعروف أنّ الصينيين هُم مِن اكْتَشفوا صِناعَة الحرير قَبْل ثلاثة آلاف سَنة قبل الميلاد ، وبَلَغت تلكَ الصناعة مُسْتويات مُبْهرة وراقية ، ولكون أنّ تَصْدير تلك الصناعة اتّبَع مسَارات محددة، فقد عُرف ذلك المسَار مُنذ الزّمَن القديم باسْم طريق الحرير ، واسْتمرّت تلكَ التجارة مُسْتخدمة تلك المسَارات لألْف وخمسمائة سَنة تالية ، وانْتقلت عَبر ذلكَ الطريق مُعظم الديانات المعروفة كالبوذية والإسْلام في آسيا ، وعَرفت الأمَم الحروب المُدَمّرة كما عَرف الناس وسائِل التَدوين كالورق ، وقد أحْدث طريق الحرير طَفْرَة في النُظم الاجتماعية السائدة ، وكانَ النشاط الاقتصادي العامِل الأهَم في حواضِر وسَط آسيا ، وعَبْر طريق الحرير دخَلَت الديانة البُوذية كأحَد الأدْيان الثلاثة الكبرى في العالم إلى الصين في أواخر عَهد أسْرة هان الغربية (عام 206 –عام 220 ق م) وخلال السَنوات الأخيرة بدأتْ مُنظمة التربية والعلوم والثقافة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة تُنَفّذ برنامج بُحوث جديدة لطريق الحرير وأُطْلِق عليه تَسْمية طريق الحوار لدفع الحوار والتبادل بينَ الشرق والغرب.
وقد ذكرَ الكاتب جمال إمام ، في صَفحة أفْكار وآراء بجريدة عُمان الورقية تحت عنوان ( الحرير والتوابل والسياسة وأشياء أخرى …) .بتاريخ 29 مايو 2017 (قبل أن تطلق الصين مبادرتها «الحزام والطريق» بشأن إحياء طريق الحرير القديم سواء في قمتها الأخيرة قبل أيام في العاصمة بكين أو حتى عندما أعلنت عنها لأول مرة في عام 2013 تحت عنوان (قريبا «حزام واحد وطريق واحد» ..كان لعمان قصب السبق في تبني الدعوة العالمية التي أطلقتها منظمة التربية والثقافة والعلوم «اليونسكو» قبل أكثر من عقدين ونصف لدراسة طريق الحرير والتجارة القديمة التي كانت تتبادلها القوافل التجارية البرية والبحرية بين شعوب العالم …) انتهى كلام الكاتب.
والواقع أنّ البُعد الاقتصادي هو مِن أهَم عناصر الخُطط الاسْتراتيجية للسلطنة وعلى الجانب الآخر تَنْظُر الصين إلى عُمان وفْق أهميّة مَوقعها الحيَوي قديماً وحديثاً ، وقد تمّ الاتّفاق أنْ تُقَدّم عُمان دعْماً لوجستياً لمبادرة الصين وفْق اتفاقيات مُتعددة للتعاون الاقتصادي عَبر برنامج طريق واحد ؛ الحزام والطريق.
إذنْ نقرأ مِن تلك الاتفاقيات أنّ عُمان جُزء أساسي مِن بَرنامج الرّبط بينَ الحزام والطريق ، وكما كانَ تأثِيرها عليه قديماً ، فإنّ تأثِيرها حالياً عليه أكْبَر وأهَم ؛ فمساهَمَتِها في رَفْد التَجربة الإنْسانية قديماً يُحَتّم أنْ يَكون رَفْدَها لذات التَجربة أعْظَم وأوسَع في الوقت الحالي والمُسْتقبل.
بيْد أنّ عُمان في سياساتها المُتوازنة ثابِتَة ومَسْؤوليتها الإنْسانية والثقافية والأخلاقية تُشَكّل حَيّزاً كبيراً وأساسِياً في أيّ مَشروع عالمي في المنطقة ، بِكُل ما تَحمله مِن أمانة كبيرة وثُقْل تاريخي ودور أساسِي ثابِت ، ومن ذلكَ المُنطلق نَجد شَراكتها في مَسْعى الصين لإعادة رَبْط الشَرق بالغرب في إطار برنامج الحزام والطريق لا تَقِل أهميّة عَن رِحْلات بَحّارَتها وتِجارَتها البَحرية وانْفتاحها على العالم قديماً، ساعَدها على ذلك مَوقعها الإسْتراتيجي الأهَم في قَلْب العالمَيْن الغربي والشرقي معاً.
ولِتَوثيق وتَوطيد دَور عُمان القديم بِثَوب حديث قدّمت عُمان اليَخت السُلطاني (فُلك السَلامة) عام 1990م لخدمة الرحلة الثقافية إعادة استكشاف طريق الحرير ، ولإحْياء دَور عُمان في التجارة البحرية القديمة ، وانْتَهت الرحلة في مَدينة كانتون البَحرية بالصين ، وسَلكت الرحلة نفس طريق الحرير القديم الذي سَلكه ماركو بولو في بَحثه عَن الحرير والتوابل .. وقال الكاتب جمال إمام : (إن عمان لم تكتف باقتفاء أثر الطريق القديم للتجارة عبر مساره البحري أو دروبه البرية ولكنها نظمت ندوة دولية حول «أهمية التراث البحري العماني لطريق الحرير»).
والشَواهد على دَور عُمان التاريخي في التجارة العالمية في الحضارات القديمة كثيرة لا تُعَد ، وخُصوصاً ما يَتعلّق بتجارة الحرير الذي نالَ اهْتمام العالَم ومُنذ بداية الألْف الثاني قبل الميلاد ، إلى جانب ما تمّ اكتشافه خلال تلكَ الرحلات التجارية ، أهَمُها رحلة المُسْتكشف البُرتغالي فاسكو دي جاما في القرن الخامس عشر ودورانه حول رأس الرجاء الصالح وهو كأوّل بَحار أوروبي يَصِل الطريق الذي يَربُط أوروبا ، مِمّا مَهّد للأوروبيين في تِجارة التبادلات البحرية ، بَيْد أنّ مَن دَلّ فاسكو دي جاما بتلكَ الطريق هو الملاّح العُماني أحمد بن ماجد.
وقال الكاتب جمال إمام : (إن عمان كانت واحدة من أهم المراكز الحيوية على طريق الحرير بين الشرق والغرب باعتبارها من أكثر المراكز التجارية ازدهاراً في ذلك الوقت في المحيط الهندي حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر .. وفي ذروة ازدهار الامبراطورية البحرية العمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر نجحت عمان في بسط نفوذها البحري على امتداد الساحل من رأس جوردافور في القرن الأفريقي وبريمبا في موزمبيق ومقديشو وماليندي وممباسا وزنجبار…).
خُـلاصــة ..
وأنا إذْ أشُد على يَد الكاتبة الصينية فيحاء وانغ .. وأقْترح عليها الاطّلاع على تفاصِيْل أكْثَر في التاريخ العُماني والبَحث في الحضارات التي قامَت ، ومَهّدَت للطريق البحري والتي كانَت شَريكة ِلدَولتها الصِين قديماً وحديثاً ، وأنْ تكون مُنْصِفَة لذلك التاريخ ؛ فالصِين نفسها اليَوم تأتي إلى عُمان اعْتِرافاً بِدَورها ومَكانتها كامْتداد لِلْمَوقع الإسْتراتيجي القديم.