بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

صـديقـي الباكسـتـانـي..

الكاتـب/ عـبـدالله الفـارسـي

 

صـديقـي الباكسـتـانـي..

 

حين تسافر إلى مكان بعيد عن وطنك مختلف عن عقيدتك و فكرك لا تدهشك المباني والابراج والجسور بل تدهشك الأفئدة والنفوس والقلوب.

يدهشك الناس والبشر وليس الحدائق والغابات والبحر.

*****

قاصد الدين شريف ليس صاحب مصنع الطابوق اليدوي الذي يقع في أطراف منطقتنا الصناعية. وليس ذلك الميكانيكي ذو الاصبع الخنصر المبتور الذي اصلح عطل سيارتي المعقد .. وايضا ليس ذلك الباكستاني الذي قام بتركيب ديكور السقف لمنزل جاري وبعد شهر سقط الجبس فوق مائدة طعامهم أثناء تناولهم الغداء ولم تسقط فوق رؤوسهم!!.

إنه صادق الدين شريف الاسترالي الجنسية الباكستاني الأصل.

كان يسكن بجوار منزل السيدة العجوز انجلي تلك المرأة التي أخبرتكم بأنني تورطت بالسكن معها.

حين علم قاصد الدين شريف بأن طالب عربي سيسكن معها فرح فرحا شديدا وجاء في اليوم التالي قارعا جرس بابها.

مازال الباكستانيون وغالبية سكان القارة الأسيوية والأفريقية المسلمة يتوهمون حتى اللحظة بأن العرب هم أحفاد الصحابة وسلالتهم الطاهرة النقية المتبقية رغم كل هذا التردي والخزي والضعف والهوان العربي.

*****

ذات عصر سمعت صوت الجرس فنهضت العجوز لتفتح الباب فقلت لها : استريحي في مقعدك  لا يجوز أن يقوم كبير السن ليفتح الباب وهناك من هو أصغر سنا منه.

فنظرت إلي باستغراب وكأنها تسمع هذه القاعدة السلوكية الإسلامية لأول مرة في حياتها وحدقتني بعينين زرقاوتين حادتين كعيني سمكة نادرة.

فذهبت لأفتح الباب فإذا بوجه مألوف لدي ومألوف معنا في منطقة الخليج العربي.

قال لي بصوت واضح ولغة سليمة : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فانسكب سلامه ناعماً لذيذاً رقيقاً على سمعي وهطل دافئاً حميماً على روحي في مكان لم أتوقع أن أسمع فيه هذا السلام الخالد.

صافحني بيد ضخمة كأنها قطعة عريضة من الجرانيت الصلب .. وقال لي أنا قاصد الدين شريف جاركم الباكستاني، أخبرتني السيدة أنجلي بموعد قدومك فأحببت أن أسلم عليك وأدعوك لتناول الغداء معي.

وعدته بالحضور للغداء معه ولكن بعد عدة أيام.

ثم ابتعد عني فأخذت أتأمله وهو يمشي كأنه فيل أسيوي عظيم أو كائن خرافي منقرض.

*****

كبرت العلاقة بيننا كثيرا وتطورت بشكل غير طبيعي كنا نجلس يوميا كل مساء في المساحة الخضراء الصغيرة خلف بيته.

فكنت أقضي جل وقتي معه وكنت أجلس في حديقة منزله أكثر من جلوسي في بيت العجوز إنجلي.

وقبل سفري بأيام جاءني وكان حزينا جدا يكاد أن يبكي.

فقلت له : ما بالك أيها  الضخم العظيم؟!!.

فقال : هل صحيح انك ستعود الى وطنك؟!.

لقد أخبرتني السيدة انجلي بأنك ستعود أدراجك إلى بلدك .. لماذا ؟؟!!

كان يكلمني وهو يتحشرج .. وكأن حجرة صغيرة تسكن في حلقومه تحجز خروج كلماته وتبعثرها.

لم أتوقع من هذا الرجل الضخم أن يكون بهذا القلب العصفوري الرقيق، ولم اتوقع بأن إنساناً هائلاً بهذا الحجم توجد في عينيه دموع.

قال لي  :عبدالله إجلس هنا أرجوك .. هنا المستقبل.

أنت ذكي جداً ستنجح هنا نجاحاً باهراً .. ستحقق نفسك هنا وسترتفع هنا.

*****

كان لدى قاصد أربع بنات أكبرهن في السابعة عشرة .. كل واحدة منهن كانت تنافس القمر جمالا وشعاعا وفتنة.

وحين قررت العودة والنكوص قرارا نهائيا حاول أن يثنيني عن قراري ويمسكني من الكتف التي تؤلمني. كان يعلم بميولي النسائية ورغباتي المشتعلة ففاجأني بقوله : إجلس يا عبدالله سأزوجك ابنتي الكبرى .. لن أجد لها زوجا أفضل منك فقط أرجوك أجلس ولا تسافر.

قلت له : يا قاصد أنت تمنحني ثقة لا أستحقها أنا متزوج يا قاصد، وهناك من ينتظرني وأبنتك الجميلة كل رجل يتمناها في هذا الكون البائس .. وستحظى بزوج رائع وحياة كريمة.

إنها صغيرة يا قاصد صغيرة جداً على أفكاري، صغيرة على هواجسي، صغيرة على شطحاتي وأوهامي.

فصمت لدقائق ثم أستأنف حديثه معي، وقال لي  :أرجوك يا عبدالله لا تسافر .. هنا مستقبلك هنا يحترمون الأذكياء ويقدرون الفكر ويبتسمون لأصحاب الأقلام والمثقفين .. هنا ستنال الرعاية وستحظى بالعناية .. لا تضيع فرصة العمر الذهبية هذه يا عبدالله.

ثم صرخ في وجهي (أنظر إلي أنا أحمق كبير ومع ذلك حصلت على الجنسية الاسترالية وأحظى بحياة مرفهة.

لو كنت في باكستان كنت سألتقط طعامي من صندوق القمامة).

قلت له : المتعوس متعوس يا قاصد ولو حطوا على رأسه فانوس.

يجب أن أذهب واعود حيث الفشل ينتظرني بلهفة واشتياق .. يحب أن أرجع إلى العذاب يجب أن أعانق الخطأ وأصارع الخلل فذاك مصيري وذاك قدري.

يجب أن أعود أدراجي حيث قدري.

يجب أن أذهب واتجرع المرارات التي تنتظرني هناك جرعة جرعة .. واستوفي حقي من الألم كاملاً يا صديقي قاصد.

*****

أربك قاصد الدين قلبي، وهز فؤادي حين رأيته وهو يحاول أن يخفي دموعا عزيزة سالت على خذه.

فأجبرني على مبادلته الدموع.

واضطرني أن أعزف معه مقطوعه رقيقة من البكاء العذب الجميل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى