رُسوخُ قَـدَم وعُـلـوُّ كـعـب..
عـبدالحميد بن حمـيد الجامعـي
رُسوخُ قَـدَم وعُـلـوُّ كـعـب..
ربما من النفل جدا التدليل على جوهرية قضية فلسطين بالنسبة لعمان والعمانيين، وعلى عدم التفريط بها مهما كانت المعطيات، وربما يمكن تلمس تلكم العلاقة الوجدانية والمصيرية بين فلسطين وقلب كل عماني كريم في الآثار الأدبية والدينية والروايات والسرديات عموما، وقد عَبّر عن هذا الوجدان العماني باني نهضة عمان الحديثة السلطان قابوس رحمه الله في خطاب له عام ١٩٨١ م بقوله : (نؤكد من جديد وجه عمان العربي وأصالتها العربية وإخلاصها لكل القضايا العربية، وفي مقدمتها قضية شعب فلسطين، الذي اغتصبت أرضه ظلما وغدرا) ا هـ (١).
لقد قامت عمان بقيادة باني نهضتها وحكيمها السلطان قابوس طيب الله ثراه بدعم قضية فلسطين، وحاولت تسريع عملية إنهاء الحرب والاحتلال وإحلال السلام عبر قرارت جريئة وفي سياقات حساسة بعناية واستقلالية، فراعت -في سبيل تحقيق الأمن لفلسطين وتحرير الأقصى والقدس- اتفاقيات التطبيع بين كيان الاحتلال ومصر (كامب ديفيد ١٩٧٩ م)، ثم بينه والأردن (وادي عربة ١٩٩٤م)، وحاولت دفع عملية السلام بين السلطة الفلسطينية وبين الاحتلال في اتفاقية أوسلو (١٩٩٣ م)، لا سيما وقد أبدى الكيان المحتل بعض المرونة من قبل رئيسه إسحاق رابين يومئذ، متحملةً الموقف الشعبي الرافض لذلك عموما، فسمحت للكيان الصهيوني -في بادرة حسن نية ودعما لتنفيذ اتفاقية أوسلو وتسريعا له – مكتب تمثيل تجاري له في مسقط (يناير ١٩٩٦ م)، واستضافت لجنة الموارد المائية، ثم مركز الشرق الأوسط لأبحاث تحلية المياه (MEDRC) (١٩٩٦ م)، أحد مخرجات اتفاق أوسلو (٢)، إلا أن اغتيال رابين (نوفمبر ١٩٩٥ م)، وفوز الليكود برئاسة نتنياهو (مايو ١٩٩٦م)، والجرائم التي سبقت انطلاق الانتفاضة الفلسطينية (٢٠٠٠ م) وكانت سببا لها، أظهرت عدم جدية الكيان الصهيوني للسلام ونكوصه عن تعهداته -كما هو واقر في الوجدان الجمعي العماني والعربي والإسلامي، ولكن كانت المراهنة على ذلك من باب (لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا) الطلاق/١ ، ومن قولهم: (رَابِعْ الكذابْ إلى رِزِّ البابْ)- مما حدى بعمان لغلق مكتب التمثيل التجاري لدولة الاحتلال (٢٠٠٠ م)، وإثبات أن تجربة دفع عملية السلام لم تنجح، وأن هذا الكيان متأصل بعقيدة الغدر والخيانة وعدم الوفاء بالعهود والشيفونية واستحقار الشعوب الأخرى والإنسان عدا جنسهم.
تدور الأيام ولا زال الكيان الصهيوني فوق كل القوانين الدولية، ولا زال يتوسع في احتلاله لأرض العرب في فلسطين، ولا زال يتسلى بقتل الفلسطينيين وتشريدهم، ويتلذذ بإهانتهم وسفك دمائهم، وتفاقمت الأحداث بين الكيان والسلطة الفلسطينية وبينه وبين إيران، وقُرِعت طبول الحرب (٢٠١٨م)، والتي إن نشبت فسيكون أثرها على الإنسان في الخليج العربي وخصوصا في عمان كبيرا ومدمرا، من ثم ورغم مرض السلطان قابوس، إلا أن روحه كانت وثابة، فتحامل على مرضه، واستقبل وفدين اثنين ( أكتوبر ٢٠١٨ م)، وفدا أولا برئاسة محمود عباس كرئيس دولة فلسطين، وكانت زيارة رسمية معلنة مكث فيها عباس ثلاثة أيام، ووفدا للكيان المحتل بعدها بثلاثة أيام برئاسة رئيس الحكومة -الرئيس الحالي- نتنياهو، ولأن استقبال وفد الكيان كان أمرًا اضطراريا واستثنائيا وفي ذات الوقت هو ضد موقف عمان الرسمي والشعبي من الكيان الصهيونى، فقد جاءت الزيارة خالية من الرسمية، حيث جيء بالوفد ليلا لمقابلة السلطان دون موكب رسمي، وجلس نتنياهو دون أن يكون هناك أي علم لكيان الاحتلال خلفه، كما يستوجب البرتوكول، ولم يتم الإعلان عنها إلا بعد خروجهم من عمان.
ولكون استقبال وفد الكيان المحتل هو ضمن مواقف عمان السابقة والمشجعة على السلام، ولكونها زيارةً ذات غاية آنية، وهدفٍ واحد محدد، وهو وقف التصعيد ومنع وقوع حرب إقليمية في منطقتنا وحول عمان بين إيران ودولة الاحتلال، فإنه لم يكن لهذه الزيارة أي تنسيقات تالية ولا اتفاقيات كما حال قمم الرؤساء الرسمية، ولم ينبثق منها أي تقارب بين عمان وبين دولة الاحتلال، كما كانت بين عمان ووفد فلسطين قبلها، فهي لم تكن زيارة رسمية لعدم وجود تطبيع بين الجانبين، لتبقى عمان على أصلها في عدم التطبيع مع الكيان بأي صورة كانت، من ثم فتلك الزيارة تعد مغايرة لاستقبال الكيان في بعض الدول العربية المطبعة اليوم، من رسمية واتفاقيات وتعاون وغيره ملحقة به.
لقد تم نَزعُ فتيل الحرب في المنطقة من خلال تلكم المقابلة، إلا أن الكيان استمر بإجرامه في حق الفلسطينيين، واستمرت عمان على عدم التعامل مع الكيان وعدم فتح مجالها الجوي له، وعدم وجود أي تواصل مرتبط بزيارة رئيس حكومة الاحتلال لعمان من ٢٠١٨ م.
رغم التنازلات التي قدمها العرب عموما، ورغم خطط السلام التي أبدوها، إلا أن كيان الاحتلال بقي على غطرسته، وأصر على إهانة أنظمة الحكم العربية الرسمية أمام العالم، وإحراجها أمام شعوبها، لزعزعة الأمن وإيجاد شرخ دائم بين مكون الدول العربية الرسمي والشعبي يضمن للكيان الصهيوني تخلف الدول العربية وعدم استقرارها الداخلي وعدم تطورها وازدهارها ومن ثم تفوقه الإقليمي، وقد أبى كذلك التجاوب مع القرارت الدولية ومنظماتها، والخاصة بإقامة دولتين وبحقوق الفلسطينيين، لينسى العرب كل ذلك وكل الآلام التي صنعها بهم وببني جلدتهم، لِيُهدوه -بدلا من موقف حازم موحد- تناثرا وتزعزعا وخلافا وخصومة بينهم، مما مكَّنه من إقامة علاقات طبيعية مع الدول المتناثرة، دون أن يكون لهذه الدول أي مكسب حقيقي بعيد المدى فيما قاتل من أجله أسلافهم، وقدموا الدم والغالي والنفيس في سبيله.
لقد تنامت اليوم النزعة الوطنية أو القومية، وطغت على الدول العربية، مما ولد الأنانية، وعدم التمسك بإقامة العدالة في الأرض، وهو لا شك خلاف مبادئهم ومنطلقاتهم وموروثاتهم الفكرية والعقدية، وتساقطت هذه الدول لا سيما الخليجية مع المغرب العربي دولةً تلو الأخرى في أتون التطبيع، إلا عمان والكويت والسعودية فبقيت ثابتات، وبسبب الأنانية والانسلاخ من قيم الإنسان فيما يخص الدم والثقافة والتاريخ تمكنت المادية، والتي دُخِل عليها من باب الاقتصاد، والتقنية، من اختراق مَاْ تبقى من صفوف هذه الدول، وكان مجال الطيران من أول المجالات التي طُرقت ومن أهمها.
لقد قامت عمان مؤخرا -وقبلها السعودية- فضلا عن باقي الدول المطبعة رسميا، بالإعلان عن فتح مجالها لجميع الطيران المدني والتجاري لجميع الدول، وقام كثير ممن يؤيدون القرار بمحاولة تبريره، إلا أن تبريره بني على الأنانية والمادية وعدم الإنسانية؛
فالأنانية أن الدولة قامت بالتنصل عن أي أثر قد يكون لقرارها على غيرها، وأي ضعف أو تضعضع سيسببه
والمادية في كونها نظرت العائد المادي الذي ستناله خطوتها باستخدام مزيد من الطيران لأجوائها، بعيدا عن حِلِّيَّةِ ذلك المصدر وحُرمته، وعن طهارته ونجاسته، وعن مشروعيته وبطلانه، غيرَ متورعة ما سيدخل في خزينة الدولة من مال مسروق ومنهوب، وما سيأكله شعبها، وتُطِورُ به من بنيتها، وهو مرة أخرى خلاف مبدئها وثقافتها.
وعدم الإنسانية في كون الخطوة ستعين محتلا على احتلاله وظلمه، وتوفر له مالا لشراء أسلحة مثلا لقتل الفلسطينين المنكوبين، أو أدواتٍ لاحتلال مزيد من أراضيهم وطردهم منها وبناء مستوطنات عليها، مستفيدا الكيان من الساعات التي اختصرها من هذا التحليق، وما سيؤدي إليه ذلك كله من إطالة معاناة المظلومين، والمد للمحتل الغاشم في عمره وطغيانه.
إن الأنانية والمادية بزعم تقوية الاقتصاد التي صاحبت التطبيع الرسمي لباقي الدول الخليجية هو للأسف يُشعر بالقلق الشديد من تحول سياسة عمان الخارجية من مدرستها الراسخة والشامخة المبنية على الحق والعدالة والإنسان، إلى مدرسة أشد راديكالية ضد القيم والأسس والثوابت التي تقف في وجه هذه التوجه الجديد (المادي/ الاقتصادي) كما قد نراه باديا في بعض الدول، مما قد يُطمِع الكيان الصهيونى ذاته، ويجعله يتنطع بتداخله أو المحسوبين عليه في سياسة عمان وقرارتها السيادية، كما رأينا في تجرء بعض النكرات منهم على سماحة الشيخ مفتي السلطنة -حفظه الله-، ورسم مسار للتخلص منه، “قريبا جدا جدا” كما عبر في تغريدته! ومع بُعْدِ ما يقول، وقناعتنا أنه يصطاد في الماء العكر، إلا أن بجاحته وأمثاله يجب أن يكون لها رد صارم، وردّها هو ثبات عمان وعدمُ تزعزها عن سياستها الراسخة والمعتدلة، والحذرُ من ثلاثية الأنانية والمادية وغير الإنسانية، فثقافتنا تؤسس لنا ذلك الشموخ حيث يقول سبحانه في كتابه: (وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰان) النساء/ ٧٥، والإنسانية ترفض مد الظالم وتقويته على المظلوم، والدم واللسان والثقافة والأصل عُرْوَاتٌ وثقى لا تنقطع، ويُفزَع لها، من ذلك فزعت أوروبا في أيام فقط لأوكرانيا، مع اختلاف الثقافة والدين واللغة والجغرافيا مع بعضهم، فإن تعذر علينا القتال عن المظلوم، أو إمداده بالسلاح ليدافع عن نفسه، فليس بأقل من أن لا نُسَمّنَ جَيبَ المحتل ليشتري له أسلحة لقتله، أو آليات لتدميره وجرف بيته واحتلال أرضه، بفتح مجالنا الجوي له.
أخيرا ومن حكمة باني النهضة طيب الله ثراه نستطيع أن نرى خصوصية السلطان هيثم أيده الله، فقد كان الوحيدَ الحاضرَ في مواطنَ حساسةٍ عديدة ليجعله على بيان، ويستمر على يده بناء عُمان، مستفيدا حَذِرا متسلحا بالدهاء والعزيمة والثقة والاستقلالية، ليعلم صديقه من عدوه، وما يضر أمن عمان وما يسره، حيث انعدم حضور المجلس – في بعض الاجتماعات- من العمانيين إلا منهما (السلطانين)، ومنها أزمة خليتَيِّ التجسس المعلَن عنهما أبانها (٢٠١١ و ٢٠١٨ م) -لا أعادها الله وأصلح بين العرب جميعهم-، ومنها تربعه على وزارة سيادية معنية بثقافة البلد وتاريخه لمدة طويلة ليؤسس للأصالة وينطلق منها في التعاطي مع المعاصرة، ومنها أيضا تكليفُه بقيادة دفة رؤية عمان ٢٠٤٠ م، فإن تلكم الثقة الخاصة قد تجلت بتوصية السلطان قابوس بالسلطان هيثم خليفةً له على عمان، وبسكون قلوب العمانيين إليه، فكان نِعْمَ الخليفةُ الساهرُ على راحة مواطنيه رغم الصعوبات التي تعصف بعموم العالم اليوم، وكان الحائطَ والجبل الأشم في الحملة الشرسة لما يعرف بصفقة القرن، والتي حاول أصحابها الالتفاف على عمان لتكون جزءا منها، لولا جلالة السلطان هيثم حفظه الله وثباته على مبدء عمان الراسخ، وهو اليوم من نُعوِّل عليه أن تبقى عمان على أصلها عالية الكعب راسخة القدم في قضاياها الجوهرية، فيأمرَ عاجلا غير آجل -وقد علم غِيرةَ العمانيين على حرماتهم وبأسَهم وهو سيدُهم وسلطانهم- بإعادة تعليق استخدام الكيان المحتل للمجال الجوي العماني حتى يلتزم بأقل الواجب عليه وهو حقنُ دماء الفلسطينين، وتنفيذُ القرارت الدولية بإقامة دولة فلسطين مستقلة، وأن تبقى عمان في سياستها عموما حرة مستقلة، متبوعةً غيرَ تابعة، مُقلَّدةً غيرَ مقلِّدة, قائدةً غيرَ مَقُودة، فوق الأنانية والمادية وعدم الإنسانية، وأن تبقى المبادئ والمنطلقات والثوابت راسخة لا تتزعزع، لا سيما إن وقفت مع حق وعززته، وتصدت لباطل وحجَّمته، وأن يكون عهدُ الله ورسوله وعهد الآباء والأجداد وكفاحهم وعهد المظلوم في أرض فلسطين ودمه وعرضه أثبتَ لنا من معاهدة/ اتفاقية إيكاو (ICAO) أو شيكاجو للطيران المدني، والتي لا يلتزم بها مُوقِّعُوها الرئيسون إذا خالفت مبدءا أو منطلقا أو مصلحة من مصالحهم، فدول الاتحاد الأوروبي (النيتو) مثلا علقت أجوائها أمام الطيران الروسي المدني بزعم احتلال روسيا واعتدائها على أوكرانيا في غضون أسبوعين تقريبا، حتى قالت رئيسة الوزراء الأستونية كايا كالاس (فبراير ٢٠٢٢م) -حاثة باقي دول الاتحاد الأوروبي على حظر الطيران الروسي من التحليق في أجواءهم-: (لا مكان لطائرات الدولة المعتدية في الأجواء الديمقراطية) اهـ (٣)، وهكذا أيضا حضرت روسيا مجالها الجوي عليهم، فكيف بنا نلتزم بمعاهدة لا يلتزم بها أصحابها الأصليون لمجرد اعتداءٍ لم يمرَّ عليه أسبوعان، ولأرض تختلف عن كثير منهم لغةً وعاداتٍ وحتى مذهبا دينيا، ويُرادُ لنا الالتزامُ مع كيانٍ غصبَ أرضنا وشتت أهلنا، الذين نشترك معهم لغةً ودينا وتاريخا وثقافة وجغرافيا، لأكثر من سبعين سنة، ونعتبرَه مدنيا مع جرائمه المستمرة من قبل مدنييه (قُطعان المستوطنين المدججين بالسلاح) قبل عسكرييه على الفلسطينيين، وقد امتنع في كل سِنِي احتلاله عن تنفيذ أي قرار دولي يخدم الفلسطينيين، وعن الالتزام أو التجاوب مع أي عهد أو اتفاق أو مبادرةٍ للعرب، مع ملاءة الڤيتو الأمريكي غير المشروط! فهل مطلوبٌ منا أن نكونَ أقلَّ مروءةً وشهامةً “واختشاءَ وجه” نحن مع فلسطين من أوروبا مع أوكرانيا؟ فأي الفريقين أولى بتعليق الطيران في مجاله؛ الغرب (النيتو) مع محتل أرض ليست أرضهم (أوكرانيا)، أم العرب مع محتل أرضهم (فلسطين) ومدنس مقدساتهم؟
الـمـصـادر :
(١) مقالات السلطان قابوس عن فلسطين
https://www.atheer.om/archives/559550/
https://www.ida2at.com/oman-israel-warm-relations-and-support-deal-of-century/
(٢) مركز تحلية المياه
https://arab.org/ar/directory/middle-east-desalination-research-center/
(٣) الاتحاد الاوروبي يغلق مجاله الجوي
https://www.bbc.com/arabic/business-60536798