بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

الأحـيـاء الـثـقـافـيـة..

شـيـخـة الـمـحـروقـيـة

 

الأحـيـاء الـثـقـافـيـة..

 

يشير عالم الاقتصاد والتنمية الحضرية ريتشارد فلوريدا من خلال بحثه بعنوان (المدن في نظر الطبقة المبدعة – Cities and the Creative Class) بأن العناصر الثلاثة التي تجعل المدينة جاذبة للاستثمارات الاقتصادية العظمى والخبرات في العالم هي : التسامح والتعايش السلمي الذين يتوفران بوجود التنوع الثقافي، المواهب التي توجد مناخًا واسعًا للإبداع، والتكنولوجيا التي تعكس التقدم التقني وتدعم الابتكار العلمي.

حيث أشارت نتائج أبحاثه النوعية والكمّية أن أصحاب الاستثمارات العالمية الكبرى، والكفاءات المهنية، والخبرات المتّسمة بالاحترافية العالية تفضل العمل والإقامة طويلة المدى في المدن التي يتوفر فيها تنوع ثقافي بحيث يعم التسامح عبر تجمّع الأنماط الفكرية المختلفة في إطار واحد؛ إيمانًا منه بأن تلاقح الأفكار المتنوعة هو الإلهام الجوهري في عمليات الإنتاج والتطوير، أضف إليه أن المدن المتشبّعة بعالم من الإبداع تقدّم تغذية بصرية وسمعية مستمرّة تحفّز على التفكير خارج الصندوق، والانطلاق بالأعمال إلى آفاق لا محدودة، أما التقدّم التكنولوجي فهو نقطة مهمة في ثالوث المدينة التي يفضّل الاحترافيون والمستثمرون العيش والعمل فيها، فالتكنولوجيا هي الوسيلة التي تنتقل عبرها الأفكار الملهمة والإبداعية بسرعة وسلاسة.

أشارت الدراسات التي أجراها ريتشارد فلوريدا وكل الدراسات الأخرى المستندة على نظرية (المدن الإبداعية)؛ أن الاستثمارات الأجنبية المتقدّمة والكفاءات المهنية المحترفة؛ تفضّل العمل في المدن أو البلدان التي تقدّم قاعدة استثمارية لأعمالهم، إلى جانب فضاءات معرفية ترقى إلى مستوى تطلعاتهم في التطوير على المستويين المهني والشخصي، وهي ما تُعرف بمسمّى “الأحياء الثقافية”؛ فكما يهتم المستثمر بمستوى الخدمات التعليمية والصحية في المدينة، يشغله أيضًا مستوى الخدمات الثقافية والفكرية التي يعتبرها عنصرًا مهمًا في استمرار عطائه وتطوير انتاجه؛ حيث أن هذه الخدمات لا يعتبرها ترفًا بقدر ما هي دافعًا رئيسًا في ارتقاء أسلوبه الفكري الذي يجعل نتاجاته المهنية والاقتصادية مميزة، وأعلى قيمة، وعلامة تجارية فارقة عن النتاجات المادية الأخرى.

تتبع العديد من المدن المالية الكبرى مثل نيويورك ولندن وبرلين وباريس وموسكو نظام “الأحياء الثقافية”، وتكون هذه الأحياء حاضنات للعديد من الصناعات الثقافية والإبداعية كالمسارح، والمتاحف، والمكتبات، ودور النشر، ودور الأوبرا، ودور السينما، ومراكز للمعارض والمؤتمرات، وصالونات أدبية وثقافية، وقاعات لإقامة الجلسات الحوارية أو العروض الكوميدية، واستوديوهات لصناعة الموسيقى والبرامج الفنية والإعلامية، ومساحات مفتوحة لممارسة فنون الشارع، والأسواق الشعبية والحرفية، والأسواق العصرية والمطاعم العالمية، إلى جانب إقامة الفعاليات المتنوعة كالمهرجانات والكرنفالات، ومعارض الفنون التشكيلية والتصوير الضوئي، وعروض الأزياء، والحفلات الفنيّة والأدبية والموسيقية، والمسابقات الرياضية، والأحداث الترفيهية وغيرها، ومن الأمثلة على الأحياء الثقافية حول العالم : حي برودواي وتايمز سكوير في نيويورك، الطرف الغربي وترافلجار وبيكاديللي في لندن، جزيرة المتاحف في برلين، وحي باريس سان جيرمان للفنون في باريس، هاتشيكو وشيبويا في طوكيو، الساحة الحمراء في موسكو، وكتارا في الدوحة بقطر.

تحتوي الأحياء الثقافية وتحفز الصناعات الثقافية والإبداعية، ووفقًا لتقرير منظمة اليونيسكو الصادر في ديسمبر 2017، فإن الصادرات العالمية من الصناعات الثقافية والإبداعية كالأفلام والموسيقى والعروض المسرحية والأعمال الحرفية والفنية ومعارض الكتب وغيرها بلغت 250 مليار دولار أمريكي، كما توفر الصناعات الثقافية والإبداعية قرابة 30 مليون وظيفة حول العالم، وتتراوح أعمار العاملين في هذا المجال بين 15 إلى 29 عامًا.

إنشاءُ الأحياء الثقافية في بعض ولايات السلطنة هو خير استثمار لرأس المال الثقافي العماني بماضيه وحاضره؛ فالجمع بين الطابعين المحلي الأصيل والعالمي المعاصر يرفع من مستوى جاذبية الولاية للسياحة والاستثمار، حيث من الممكن أن تتجاور القلعة التاريخية مع الفنادق والمقاهي والمطاعم العصرية، وقد يتوازى السوق التراثي مع سوق العلامات التجارية العالمية، ولعل ولاية نزوى أحد أكثر الولايات العمانية استعدادًا لاحتضان الأحياء الثقافية بعد ولاية مسقط، وبعض الاستثمار الذكي من شأنه أن يجعلها كيانًا نابضًا بالحياة ويضعها على خارطة المدن الإبداعية في العالم، وتكون بذلك جاذبة لاستثمارات اقتصادية كبيرة، وكفاءات عالية الاحتراف، ومؤثّرة في إنعاش الحركة السياحية بالسلطنة، ناهيك عن تحوّلها إلى قوة ناعمة تؤثر إيجابًا على الحضور السياسي والاقتصادي للسلطنة.

‫3 تعليقات

  1. فكرة مهمة وجاذبة ان تصبح نزوى بمقوماتها التراثية والخدمات التي يمكن تطويرها والمرافق ، حي تراثي يغذى بالانشطة الثقافية المتنورة ، مع الحفاظ على ثقافة المجتمع المحلي وعاداته التي من خلالها يمكن ان تنطلق مناشط وملتقيات وليالي ومهرجانات للمسرح والسينما والتشكيل والادب ،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى