بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

التعـلـيـم قاطـرة التنـمـية..

طـلال بن حمـد الربيـعـي

 

التعـلـيـم قاطـرة التنـمـية..

 

في كتابه الشهير (نظرة في مستقبل البشرية) يقول البروفيسور فيديريكو ثاراجوثا : (إن التنمية لا تعني النمو الاقتصادي، والخلط بينهما يؤدي إلى تجاهل عامل رئيسي وهو العلم وارتباطه بالإنسان وثقافته وتقدمه).

لقد أدركت دول العالم منذ بدايات الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر وحتى يومنا الحاضر أن التعليم هو الرافد المهم والعنصر الرئيسي في تطور الدول والشعوب والحضارات، فالعصر الذي نعيش فيه هو عصر العلم والمعرفة بلا منازع، وليس مستغربا أن نجد هذا التنافس بين الدول في تطويره وتحسينه بما يتلاءم والتطورات العالمية.

منذ بداية النهضة الحديثة في السلطنة مطلع سبعينيات القرن المنصرم؛ أخذت الحكومة على عاتقها نشر التعليم بمختلف المناطق ليشمل الجميع دون استثناء، كما عملت وزارة التربية والتعليم خلال العقود الماضية على تطوير التعليم وتحسينه، وذلك باعادة صياغة المناهج الدراسية لتكون مواكبة للعصر والتطورات العلمية والمعرفية المتسارعة في العالم واستندت في وضعها على خيرة الخبرات العمانية التربوية، كما يأتي إقرار مجلس الوزارء الموقر الخطة الدراسية المقدمة من قبل وزارة التربية والتعليم التي تضمنت مسارات تعليمية ومناهج دراسية جديدة أعدت لمواكبة متطلبات التنمية المستدامة ومهارات المستقبل، بالإضافة إلى إعادة هيكلة السلم الدراسي للنظام التعليمي، والبدء في نظام التعليم المهني والتقني وتطبيق الخطة الدراسية تدريجيا بدءاً من العام الدراسي القادم 2024/2023 م، تأكيدا على ما تم إعلانه في رؤية عمان 2040 حول أن التعليم والبحث العلمي هو أحد الدعائم الأساسية لهذه الرؤية، ويأتي كذلك ثمرة للجهود المبذولة من قبل الوزارة خلال السنوات الماضية في سبيل تطوير التعليم والنهوض به.

ولست أبالغ إذا قلت : إننا أمام مرحلة فارقة في تاريخ التعليم بالسلطنة، وحتى تتكلل هذه الجهود بالنجاح فنحن في أمس الحاجة إلى إيجاد شراكة مجتمعية ذات بعد ثقافي ومعرفي، وأعلم جيداً أن هذه العبارة تتكرر دائما في مختلف المناسبات وتم التطرق إليها في ندوات ومحاضرات كثيرة، لكننا بالفعل نحن نحتاج إلى أن نضع النقاط على الحروف، ونعترف بما اعترى تجاربنا السابقة من اخفاقات أو خلل في التطبيق انعكس أثره على الثقة المتبادلة بين صنّاع القرار ومخططي السياسات في البلد وبين المجتمع، والتعليم ليس بمنأى عن ذلك، وحتى نكون واقعيِّين في الطرح بعيدا عن التنظير والطوباوية، يجب علينا تنقية مجتمعاتنا من النظرة السوداوية والفكرة السلبية (التي بدأت تزداد أفقيا وعموديا)، مما يجعل الهوة تتسع يوما بعد يوم، فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن استخدام مصطلح (ضعف المخرجات التعليمية أو فشل النظام التعليمي) عند الحديث عن التعليم في كل مرة وتسويقها في كثير من وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة؛ يعد إجحافا كبيرا في حق الجهود المضنية والموارد الكبيرة التي تم بذلها خلال الأعوام والعقود الماضية من اجل تطوير التعليم، فمجرد إطلاق هذا الوصف يعتبر في حد ذاته كارثة تمس الوعي الجمعي، وتنشيء نوعا من الثقافة السلبية تجاه الواقع التربوي والتعليمي، مما يولد بشكل مباشر أو غير مباشر نوعاً من الإحباط لدى المنتمين الى الحقل التربوي وخاصة فئة المعلمين وبالتالي ينعكس سلبا على النظام التعليمي بشكل عام.

في التقرير الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في عام ٢٠٢١ تضمن نقطة غاية في الأهمية من وجهة نظري وهي “ضرورة وضع عقد اجتماعي جديد للتربية والتعليم يقوم على أن التربية والتعليم خدمة مقدمة بموجب عقد اجتماعي – اتفاق ضمني بين أفراد المجتمع على التعاون من أجل المنفعة المشتركة – . ولا يقتصر العقد الاجتماعي على مجرد الاتفاق على تقديم خدمة، إذ ينطوي العقد الاجتماعي على معايير والتزامات ومبادئ مشرَّعة تشريعاً رسمياً ومقبولة قبولاً ثقافياً.

إن الانعتاق من سطوة الافكار والتأثيرات السلبية التي تؤثر على المجتمعات، وتنمو كالاعشاب بين الصخور لتصبح من الصعوبة اقتلاعها؛ تشكل أكبر تحدٍّ تواجهه الدول والحكومات؛ فهي تحد من تطورها وتقبلها للتغيير، وتعمل كقوة مقاومة عكسية أمام حركة التقدم، لما تحمله من خطاب شعبوي يعتمد على العاطفة أكثر من اعتماده على الحقائق والأرقام والمؤشرات؛ فلو أخذنا على سبيل المثال ما قامت به ماليزيا وسنغافورة واليابان وكوريا الجنوبية وفلندا وفيتنام وغيرها من الدول، ونلقي نظرة فاحصة على الجهود التي قامت بها هذه الدول من اجل النهوض والرقيّ بشعوبها فكريا ومعرفيا واقتصاديا، نجد أن البدايات كانت في التعليم، فقد أعطت مكانة عظيمة للتربية والتعليم في وجدان مجتمعاتها وشعوبها ولست أبالغ إذا قلت : إن تلك المكانة وصلت إلى حد القداسة بأهمية التعليم، وأولت اهتماما كبيرا جدا بالمعلمين، وجعلت من المدرسة وسيلة أساسية لنمو المجتمعات وتطورها وغرس القيم الاخلاقية فيها، مع تركيزها على المتعلم كونه محور العملية التعليمية، وعلى نوع التعلم نفسه، وتغيير الأسلوب التقليدي بدلاً من التلقين والحفظ الى التفكير وحل المشكلات، وما يندرج معه من تطوير للمناهج بما يتماشى مع هذا الأسلوب، بمعنى أنها جعلت التعليم هو من يؤثر على المجتمع لا العكس؛ لذلك استطاعت الانطلاق الى آفاق المستقبل بقوة وعزيمة.

نحن اليوم أمام مسؤولية وطنية غاية في الأهمية تحتاج إلى إشراك مختلف النخب والخبرات الوطنية لإيجاد آلية مناسبة لوضع عقد اجتماعي تربوي جديد نستعيد فيه الوعي الجمعي ونعيد مفهوم التربية والتعليم إلى وضعه ومكانته التي من المفترض أن يكون عليها، وبالتالي نقل التعليم من موضع الدوران الحلقي إلى التطور الحلزوني التصاعدي، مع ضرورة استعادة الدور الحقيقي للمعلم؛ فهو الرافعة الرئيسية لتطوير التعليم والنهوض به، وبدونه تظل جميع الجهود والخطط والسياسات المبذولة ناقصة؛ فالتعليم والمعلم يتأثران بالمجتمع الذي يحوي الفعل التعليمي بتصوراته وتجلياته المختلفة سواء سلبا أو إيجابا.

يقول نيلسون مانديلا : “إن التعليم أقوى سلاح يمكننا استخدامه لتغيير العالم”.
فلنعمل بقوة على جعل تعليمنا السلاح الحقيقي الذي نمتلكه لتغيير حياتنا إلى الأجمل، ومستقبلنا الى الافضل، وإذا كان كارل ماركس قال يوما : إن الثورات هي قاطرة التاريخ؛ فإننا نقول وبكل ثقة : إن التعليم هو قاطرة التنمية، وهو من يدفع عجلتها الى الأمام.

كل عام جميع العاملين بالحقل التربوي بألف خير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى