بأقلام الكُتّابمقالات وآراء

في الذكرى الـ 17 لرحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات..

الكاتب/ خميس بن عبيد القطيطي

khamisalqutaiti@gmail.com

 

في الذكرى الـ 17 لرحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات..

 

بدايةً نترحم على روح الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أبو عمار قائد حركة التحرير الفلسطينية لخمسة عقود من الزمان حتى استشهاده في الحادي عشر من شهر نوفمبر عام 2004م، وكان أبو عمار يطلب الشهادة في كل محطاته التاريخية مقدما روحه فداء” لفلسطين التي ناضل من أجلها طوال مسيرته، وتعرض خلال تلك المسيرة النضالية لكثير من المواقف التي كادت تعجل بشهادته، لكن إرادة الله سبحانه أن يكمل هذا الزعيم رسالته، وما أجمل هذه المسيرة عندما تكون بوصلتها الدفاع عن فلسطين بقدسها وأقداسها أرض الرسالات ومهبط الانبياء، ذكرها الله في كتبه السماوية مبينا فضلها، وبدأ سورة الاسراء بذكر المسجد الأقصى وخصه وما حوله بالبركة فقال تعالى: “سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير” فجاء القرار الإلهي من فوق سبع سماوات مؤكدا سموها وعظمتها، وما أجمل هذه الكلمات عندما تدندن في الذاكرة الوطنية الفلسطينية ويرتبط بها هذا الشعب العظيم الذي قدم خلال تاريخه سجلا حافلا بالملاحم والفداء والنضال، مقدما قوائم طويله من الشهداء لم ولن تنته حتى يأتي أمر الله، هو شعب الانتفاضات والابتلاءات والرباط الى يوم القيامة، فلا عجب أن يقود هذا الشعب العظيم زعيما تاريخيا بقامة المناضل الشهيد ياسر عرفات أبو عمار الذي بقي اسمه خالدا في التاريخ كرمز كبير من رموز النضال العربي، وارتبط اسمه بالقضية الفلسطينية لعدة عقود .

الزعيم ياسر عرفات أبو عمار مر خلال تاريخه بمحطات رئيسية كبرى ينبغي أن نعرج عليها عند تأبينه في ذكرى رحيله السابعة عشر، فلقد فطرت هويته الوطنية على النضال المسلح منذ بواكير عهده أثناء دراسته بالقدس الشريف في الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث بدأ فكره النضالي يتأسس مع اندلاع الثورة الفلسطينية عام 1936م ومنذ ذلك الحين تشكلت شخصيته الوطنية وتشربت مفردات التحرير والنضال، إلا نكبة فلسطين عام 1948م أحدثت هزة عنيفة في كيان أبو عمار، وشاءت الاقدار أن يعود أبو عمار الى القاهرة لدراسة الهندسة المدنية في جامعة القاهرة حينما كانت تسمى جامعة فؤاد، وهناك تعززت شخصيته القومية لا سيما مع قيام ثورة الضباط الاحرار، وإحياء المشروع العربي المرتكز على الحرية والاشتراكية والوحدة والعدالة الاجتماعية وبناء جيش قوي واقتصاد معتمد على ذاته ونجحت مصر عبدالناصر في تصدير هذه الثورة الى الاقطار العربية وتفاعلت معها الجماهير العربية من المحيط الى الخليج، وشارك أبو عمار عام 1956م في صد العدوان الثلاثي عن مصر، ثم انتقل بعدها مباشرة ليعمل مهندسا بالكويت ليؤسس الى جانب رفيق دربه خليل الوزير أبو جهاد حركة تحرير فلسطين التي اختصرت الى حركة فتح واعتمدت النضال المسلح موجّهةً بندقيتها نحو كيان الاحتلال، وتم تأسيس أول مكتب للحركة في الجزائر عام 1965م، وفي العام 1967م تصدر اسم الزعيم الفلسطيني أبو عمار حركة النضال الفلسطيني انطلاقا من الاراضي الاردنية واستطاع عبر مجموعاته المسلحة أن يربك الاحتلال ويكبده خسائر فادحة بشكل مستمر، وبعد النكسة استمرت قافلة النضال الفلسطيني حيث تلقت التنظيمات الفلسطينية دعما كبيرا من قبل الزعيم جمال عبدالناصر وقد اعتبر عرفات ممثلا للشعب الفلسطيني ليواصل خط النضال مرتبطا بقضيته التي عاش واستشهد من أجلها، وفي عام 1969م انتخب عرفات رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فكان قدر أبو عمار مرتبطا بحركة التحرير الفلسطينية، وبعد احداث أيلول الاسود في سبتمبر عام 1970م انتقل عرفات من عَـمّان الى بيروت ليستكمل مشوار النضال المسلح الى جانب بقية التنظيمات الفلسطينية المسلحة مثل الجبهة الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين والجهاد الاسلامي، ثم حركة حماس ولجان المقاومة التي تأسست لاحقا .

ألقى الرئيس أبو عمار خطابا تاريخيا في 13 نوفمبر 1974م بالأمم المتحدة مطالبا حكومات دول العالم مساندة الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ، وقال مقولته الشهيرة : “إنني جئتكم بغصن زيتون مع بندقية ثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.. الحرب تندلع من فلسطين والسلم يبدأ من فلسطين” واستمر نشاط حركة التحرير الفلسطينية بقيادة ابو عمار منطلقا من الاراضي اللبنانية بين عامي 1978م و 1982م وتعرضت مقراته لضربات من قبل المحتل حتى تم اجتياح بيروت، فخرج عرفات ناقلا قيادته الى تونس الخضراء بعد عمان وبيروت، وهناك طالت يد الموساد أبرز رفاق أبو عمار وهما خليل الوزير أبو جهاد وصلاح خلف أبو اياد، لكن الرئيس ياسر عرفات استطاع الحفاظ على وحدة منظمة التحرير الفلسطينية مواصلا مسيرة النضال المقدس.

عام 1988م أعلن ياسر عرفات قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، وألقى خطابا بالأمم المتحدة معلنا الاعتراف بـ”اسرائيل”، ومؤكدا على حق دول الشرق الاوسط العيش بسلام، وهو ما فسره البعض تخلي المناضل الفلسطيني الأول عن بندقيته ولكن أبا عمار وجد أن الواقع العربي والدولي والفلسطيني يتطلب قيادة تلك المرحلة بالسلام مع الاحتفاظ بمسافة غير بعيدة عن فصائل النضال المسلحة كقائد لمنظمة التحرير الفلسطينية، وحفلت فترة التسعينيات بتوقيع عدة اتفاقيات أولها اتفاق اوسلو عام 1993م وقد تمكن أبو عمار من العودة الى قطاع غزة في يوليو 1994م بعد 27 عاما قضاها في المنفى، ليواصل بعدها مسار السلام بتوقيع اتفاق القاهرة 1994م ثم اتفاق طابا 1995م حيث توسع نطاق الحكم الذاتي الفلسطيني فشمل الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي عام 1998م وقع عرفات اتفاق واي ريفر ثم اتفاقية كامب ديفيد الثانية عام 2000م وذلك في لقاء ثلاثي مع الرئيس الامريكي بيل كلنتون ورئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك، بعدها عاد أبو عمار في عام 2001م ليؤكد على تمسكه ببنود السلام رافضا مقترحات كلنتون التخلي عن حق العودة واعتبار القدس مدينة مفتوحة بها عاصمتان واحدة لفلسطين والاخرى لليهود، هنا يتبين موقف القائد عرفات بعدم تفريطه في أي حق من الحقوق التاريخية الفلسطينية، وتمكن ابو عمار كقائد سياسي من المحافظة على قيادة العمل الفلسطيني ممسكا بخيوط القضية آخذا بالاعتبار ظروف المرحلة فهو لم يقبل التفريط بحقوق الشعب الفلسطيني وفي نفس الوقت استمرت علاقته بالمقاومة وحركات النضال المسلحة، لذلك بقي عرفات رمزا في قيادة النضال الفلسطيني، ولا يمكن لصاحب ذلك التاريخ أن يتخلى عن رمزيته النضالية بل ظل أحد أهم رموز النضال الوطني الفلسطيني تميز بفلسفته القيادية الحفاظ على مسافة محددة من الجميع، فلم يفقد بوصلة التحرير ولم يخرج من قيادة العمل الفلسطيني، وإن حدثت بعض الاختلافات مع رفاق المسيرة الفلسطينية.

خلال الانتفاضة الفلسطينية الاولى انتفاضة الحجارة عام 1987م حملت الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الرئيس أبو عمار مسئولية تلك الاحداث، وبعد عقد ونصف من الزمان اشتعلت الانتفاضة الثانية لكن الرئيس عرفات بقي أيقونة النضال الفلسطيني، حينها ساءت العلاقة مع كيان الاحتلال فوصلت الى طريق مسدود حيث لم يجد الاحتلال من القائد عرفات إلا شخصية المناضل الصلب الثائر الذي يحمل رمزية الكفاح من أجل التحرير، خصوصا بعد زيارته لمصابي الانتفاضة والتي تشد من أزر المقاومة واعتبار أبو عمار قائدا وطنيا لحركة التحرير الفلسطينية، وهنا تبرز قدرة الزعيم الفلسطيني في توظيف السياسة حسب مقتضيات ظروفها السياسية الى جانب التمسك بخيوط النضال المسلح الذي لم تنقطع علاقته به، وكان أبو عمار يكرر أمنيته بالشهادة ويكررها دائما فتحقق له ما تمنى يوم 11 نوفمبر 2004م.

الرئيس الشهيد ياسر عرفات – رحمه الله من القادة المحنكين فقد كان يعرف كيف يمسك بخيوط القضية ويضع نفسه كرقم صعب في المعادلة الفلسطينية والدولية، لديه قدرة كبيرة على توظيف الأوراق لصالح القضية الفلسطينية، ناضل لأكثر من ثلاثة عقود حاملا بندقيته دفاعا عن القضية، وفاوض عندما تجردت القضية من ركائز الدعم العربي فوجد الرئيس عرفات أن يتعامل مع ذلك الواقع السياسي، إلا أنه لم يفرط بأي من الحقوق الفلسطينية، لأنه يعلم جيدا أن التاريخ يكتب بتجرد وأنه يحمل أمانة تاريخية في هذه القضية، كما أنه كان دائم الاتصال بقيادات الفصائل المسلحة لم يفرط بهذه الورقة حيث يعلم أنها طريق التحرير، وبعد نضال طويل وقيادة لحركة التحرير الفلسطينية أدرك أبا عمار أن الموعد اقترب للالتحاق برفاق دربه، وأن الشهادة التي كان يطلبها منذ أول يوم سلك فيه هذا المسار قد اقتربت مرددا أمنيته بأن يموت شهيدا على درب النضال المقدس، وهنا يشير الكثير من المتابعين الى تعرض الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الى التسمم الاشعاعي الذي أنهى مسيرة حياته التي ناضل فيها من أجل القضية الفلسطينية، مختتما ذلك التاريخ الطويل فكانت رحلة العلاج الى فرنسا خاتمة لحياة هذا المناضل الفلسطيني الذي يعتبر رمزا من رموز النضال الفلسطيني، ولم يكتف أعداء أبو عمار من محاربته حيا بل تعرض لمحاولات إساءة وتشويه لصورته بعد رحيله من خلال عرض صور مسيئة لتاريخه إحداها مع شخصية صهيونية تمت فبركتها عبر برامج إلكترونية بغرض إسقاطه من رمزيته النضالية أمام جيل الشباب العربي، لكنه ظل رمزا للنضال الفلسطيني يستلهم منه جيل الشباب العربي سيرة النضال ونموذج القائد الوطني المتمسك بقضيته، لذلك يظل أبو عمار بطل ورمز فلسطيني يحيي شعاع الأمل والنضال في الأجيال، ويرتبط اسمه بتاريخ القضية الفلسطينية لتظل راسخة بقوة في وجدان الشعوب العربية وحاضرة في ذاكرة الاجيال، واليوم يحيي القوميين العرب ذكرى رحيله مستأنسين بهذه المسيرة النضالية التي شكلت خمسة عقود من تاريخ القضية الفلسطينية، وسيظل أبو عمار أحد رموز النضال الفلسطيني، لقد حقت له الشهادة كما نالها رفاق دربه من قبل، رحمك الله يا أبا عمار وأكرم مثواك وأسكنك فسيح جناته.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى