العالم

أنتـم أبطـال حقـيـقـيـون..

عـبـدالله الفـارسـي

 

أنتـم أبطـال حقـيـقـيـون..

 

حين زرت سريلانكا قطعت طريقا طويلا بالباص استغرق  حوالي 5 ساعات  وكنت طوال الطريق  احسب عدد بسطات  أولئك الباعة  الذين يبيعون في الشوارع  فلم يتجاوز العدد العشرين بائعا ..

وحين خرجت ذات نهار  من مدينتي متوجها  إلى   البريمي ولمسافة 5 ساعات  تقريبا صادفت أكثر من 47  بسطة  لباعة عمانيين يبيعون في الشوارع .!!

الحمد لله لقد تفوقنا على جمهورية سيرلانكا في عدد بسطات الشوارع وهذا يعتبر إنجازا إقتصاديا يستحق   التصفيق والرقص والتصفير ..!!

ذات نهار كأنه اللهب ..  كنت قاعدا على ضفة البحر .. تحميني مظلة من الخشب .. من تصميم وإنتاج بلدية البلد 

لا مكان هنا حيث الشمس هي الملكة المستبدة والمسيطرة .. لا مكان للجلوس سوى البيت او ان تبحث عن ظل يحميك من اللهب.

أحيانا .. ابحث عن ظل ملتهب هروبا من البيت الملتهب .. فكل ما حولك مشتعل وملتهب !

ولكن هناك لهبا ألطف من لهب!!.

وأنا جالس العن كل ما حولي  ..فوجئت بسائح اوربي يمشي على الشاطئ .. رافعا يديه مرحبا ومسلّما علي .. وربما طالبا النجدة ..!

فلوحت له بيدي .. وعرضت عليه مشاركتي في جلسة الظل ..

فرحب وجاء مسرعا مبتهجا .. فالظل في تلك اللحظة  كان يساوي ذهبا .

افسحت له في المقعد وقاسمته الظل الشحيح الذي كان يحميني من غضب الشمس وصفعة اللهب ، ..

فشكرني على كرمي  ومبادرتي .. ودعوتي له بالجلوس ..

تبادلنا أطراف الحديث ..

قال لي :   كم شهر في السنة تظل هذه الحرارة تلغح وجوهكم وظهوركم   ؟

فقلت له : غالبا ستة أشهر .. نتجرع هذه الشمس ..

وأحيانا تعطف علينا هذه الشمس العظيمة  .. فتخصم علينا شهرا واحدا ..  رأفة بأطفالنا وحيواناتنا

فقال : كم أنتم أقوياء .. صبورين  

قلت له  : إننا كائنات قوية جدا.. 

بإمكانك أن تطلق علينا بأننا زواحف بشرية ..

فأوما لي موافقا على كلامي تماما ..

فقال معقبا :

فعلا أنتم زواحف بشرية جميلة .. لأن الحياة في درجة حرارة 50 درجة هي من خصائص الزواحف الصحراوية.

فقلت معقبا على تعقيبه :

ليس هذا فحسب ..

فنحن أقوى من الزواحف بكثير ..

فقال لي : كيف ؟

فقلت له : 

الزواحف تبحث عن طعامها وتعود لجحورها  ..

بينما نحن نبحث عن الوظيفة والأمن .. والأمان .. والسعادة .. والإيجابيات .. والهدوء  ..وراحة البال .. ونسعى لاهثين خلف مستقبل غامض  ..!!

وهذه الأمور المعقدة لا يمكن أن تحصل عليها في  المجتمع  إلا بعد أن تخوض  معركة شرسة وعنيفة مع الطبيعة ومع  المجتمع نفسه!..

وهناك نسبة كبيرة يخسرون حياتهم في هذه المعركة ..!

قال موافقا : فعلا معركتهم مع الحياة عنيفة جدا .. أنتم تصارعون الشمس .. و تصارعون الحياة معا .!

يا لكم من مخلوقات عنيدة جبارة ..!

ثم قال لي : هل أنت متزوج ؟..

قلت له : طبعا .. فهذه أهم معركة يجب تخوضها في حياتك .. ويجب أن تثبت فيها بطولتك وبسالتك .

فهنا إذا لم تتزوج  وقررت اتخاذ العزوبية ملاذا حاربك المجتمع   واتهمك بأمور وقضايا  لا تخطر  على بالك ….!!

فقال : لم أفهم ماذا تقصد ..؟

فقلت له:  ليس من السهولة ان تستمتع بحياتك بمفردك ..

لابد أن تتشارك حياتك التعيسة مع أحداهن..  وتقتسم عمرك مناصفة بينك وبينها.

ويجب أن تنجب أولادا وبناتا .. ليأخذوا أيضا نصيبهم من عمرك المديد ويذوقوا جزء من شقاءك الجميل ..!

فهز رأسه مندهشا ..!

فقال لي : كم من الاولاد معك ..؟

فقلت له : ستة اولاد .. 

فقال : ستة .. كثير ..

أليس كذلك .؟

فقلت له : لا لا … ليس كثيرا ؛ أضعف وأهزل شخص في مجتمعنا   ينجب سبعة او ثمانية أبناء  .. العملية سهلة جدا ولا تحتاج إلى جهد عضلي أو عقلي كبير ..

اسهل شيء وابسطه في حياتنا  هو عمليات الإنجاب والتناسل !!

نحن شعوب تحب الإنجاب ..

تخشى على نفسها من الانقراض .. لذلك تتناسل بسرعة كبيرة ..

. و كما قلت لك ..  ذلك يعود إلى  أننا   مخلوقات عنيدة وقوية وطموحة جدا ..

فقال لي :  كم متوسط العمر معكم :

قلت له بين 80 و 90 عاما .

فبحلق عينيه كبومة افريقية  ..

فقال : 

يالهي .. كيف تصمد أجسادكم90  عاما في هذا الجحيم ..؟

فقلت له : الشمس لا تؤثر كثيرا على  عظامنا .. ولكنها  تؤثر  بشكل غير مباشر  على جماجمنا ..!!

واردفت   :  ليس هذا فحسب … فنحن نوزع التسعين عاما على الأهل والأقارب والأصدقاء والمعارف والأحبة.

فقال : لم أفهم كلامك .. 

قلت له : منذ وصولنا سن البلوغ ونحن نحمل في ظهورنا  مسؤوليات أهلنا .. وأبنائهم وذويهم ..

حتى مسؤوليات جيراننا تكون من نصيبنا .. لان ديننا الحنيف  أوصى بالجار السابع .. فهو له الحق في العناية والرعاية  أيضا .

إننا لا نعيش كل هذا العمر الطويل المديد لأنفسنا ..

إننا نوزعه على المجتمع بأكمله ونقتسمه معه ..

اذا مرض أحد أقاربك يجب أن تزوره يوميا .. واذا لم تزره لعنوك ليل نهار . 

اذا تزوج أحدهم .. يجب  أن تكون حاضرا بارزا في العرس،… وهناك من يراقبك .. ويسجل حضورك  وغيابك ..

واذا لم تحضر .. كانت هناك  عقوبات في انتظارك .

واذا مات أحد اقاربك  او أحد جيرانك يجب أن تمشي في  جنازته .. وتشارك في حث التراب على  قبره ..

 وتشاركهم  ثلاثة أيام العزاء  .. واقفا وقاعدا 

واذا لم تحضر .. فلن يمشي أحد في جنازتك .. واحتمال كبير أن تتعفن في المكان الذي مت فيه ..!!

ولابد أن تزور اقاربك وارحامك .. وأصدقاء والدك .. وصديقات والدتك .. فهذا دين عليك يجب أن تسدده قبل موتك . 

واذا مات أحد اصدقاء والدك في منطقة بعيدة .. يجب ان تتكبد المشاق وتقوم بواجب العزاء.. لأجل المرحوم والدك رحمه الله .. والذي سيسعد كثيرا في قبره حين يعلم بذلك .. وسيغضب كثيرا اذا لم تفعل .. وسيقول عنك الناس أنك ابنا عاقا سفيها !!

وحين ينهي أبناءك  تعليمهم الجامعي  يجب أن تشمر عن ساعديك وقدميك وتلهث في كل مكان لتبحث لهم عن عمل .. تقرع كل الأبواب وتتسلق كل الجدران وتقف خلف كل النوافذ لتحصل على وظيفة لهم 

وتتصل وتتواصل مع كل أصدقاءك القدماء الأوغاد  وتحني رأسك لهم لأجلك عيون أبناءك.

وايضا يجب أن تتحمل مسؤولية اولادك حتى تصبح اعمارهم  40 عاما  ..

تزوجهم .. وتوجههم .. وترشدهم .. وتحل مشاكلهم الصغيرة .. وتتحمل مصائبهم العظيمة .

تنفق  عليهم .. وعلى أبناءهم الذين ينادونك   بــ “جدي” بكل حب وجمال .. وروعة .

واذا  لا قدر الله وحدث تصادم وتنافر  بينك وبين زوجتك وانفصلتما عن بعضكما  واردت الزواج  مرة  أخرى  فستواجه عاصفة من العقبات وستتعرض لكارثة من العراقيل حتى تظفر  بزوجة إخرى وشريكة جديدة 

وكأنك لست خارجا من تجربة فاشلة وإنما كأنك خارجا من السجن تحمل ملفا اسود من السوابق الإجرامية. 

واذا تزوج ابنك أو ابنتك يجب أن تساهم معهما  في بناء  بيتهما وتأثيثه وصبغه وتلوينه .

واذا حدثت مشاجرة في احد بيوت العائلة يجب أن تكون حاضرا لفك الشجار .. وإصلاح القلوب .. وتضميد الجراح ورقع الخلاف ..

المهم يجب ان تكون فاعلا متفاعلا  مهروسا مطحونا  في بطن  المجتمع  حتى تلفظ أنفاسك الاخيرة وتغادر الحياة مرفوع الهامة  شهيدا كريما عزيزا  ..

فضحك ..  وطبطب على كتفي برفق وحنان كطفل تعيس  .. وقال لي : 

يا لحياتكم البائسة المذهلة  يا صديقي .

ليس لديكم أنهارا تغسلون فيها رؤوسكم ..

وليس معكم ثلوج تطفئون فيها غضبكم  لهيبكم .

وليس معكم غابات  و أشجار تريحون بها عيونكم وأرواحكم  ..

ومع ذلك تعيشون بصحة جيدة حتى التسعين عاما .. وتتجاوزونها …

أنتم فعلا أبطال حقيقيون !!..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى